Saturday, June 30, 2012

الإسلاميون ٤ - الجماعة والحزب: نحو بديل سياسي حركي



تحدثنا في المقال السابق وعنوانه الإسلاميون ٣ - الأمة قبل الدولة عن مفهوم الدولة في مقابل الأمة، وخلصنا إلى أن إحياء الأمة رهن بإحياء بناؤها الجماعي، بإمكاننا الآن أن نتعمق في مفهوم السياسة لدى الأمة ونجتهد لنرصد أفضل الطرق للممارسة السياسة وأفضل الكيانات التي يمكن أن تلعب هذا الدور بما يتناسب مع طبيعة تلك المنطقة من العالم.

الاستيراد الحزبي

عرف التاريخ العربي الإسلامي الكثير من الجماعات والتي كان لها دور مؤثر في العمل السياسي. في المقابل لم يعرف التاريخ العربي الإسلامي الأحزابَ بوصفها أداة العمل السياسي، ومع انتشا الحضارة الغربية أصبحت الأحزاب مفهوم يتم تداوله بكثرة، بل ربما أصبح المسار السياسي الشرعي الوحيد للمنافسة السياسية والعمل السياسي. ولكن مع وجود الأحزاب في الشارع لم تختفِ الجماعات بل إن أقوى قوى المعارضة في البلدان العربية جماعات وليست أحزابا. ومن خلال التجارب الحزبية يلاحظ أن الحزب كوعاء لحركة الشارع السياسي لم يحقق النجاح المرجو بل ظل يبدو كيانا غريبا محدود التأثير لهذا نعتقد أنه من الملائم أن نفكر في الحياة السياسية العربية من خلال مفهوم الجماعة لا الحزب. 

إن مدى نجاح أو فشل الأحزاب ليس هو المحرك الوحيد لما نتمناه من تجديد في الفقه السياسي العربي، بل مجمل دورها في الحياة ومدى تأثيرها على حال الأمة وتطورها، نقصد من هذا أن مدى فاعلية الدور السياسي للأحزاب ليس هو معيار تقييمها، ولكن المعيار الذي نعتقد في أهميته هو مدى ملاءمة الفكرة الحزبية ومدى فاعليتها في بلورة روح الأمة وتحريك إمكاناتها.

بين الجماعة و الحزب

كي نصل إلى تصور للجماعة والحزب يمكننا أن نعقد بعض المقارنات التي توضح الفرق بينهما

الأساس الأول للمقارنة هو نوع العضوية في كل منهما، فالجماعة تقوم على الارتباط العضوي بين أعضائها بما يشبه علاقة النسب (علاقات شخصية) أما العضوية في الأحزاب فتقوم على قبول الفرد لشروط العضوية ثم قبول المؤسسة الحزبية للفرد إذا انطبقت عليه الشروط وهي مسألة إدارية بحتة، ولكن في حالة الجماعة فإن الانضمام لها يبدو اجتماعيا أكثر من كونه إداريا. بهذا نرى أن الانتماء للجماعة أصعب ولكنه أقوى، والانتماء للحزب أسهل ولكنه أضعف لأن الحزب يحقق للفرد وظيفة سياسية محدودة، أما الجماعة فتحقق للفرد وظيفة حياتية مستمرة و واسعة (منهج حياة).

الأساس الثاني للمقارنة وهو الهدف المرحلي الأول لكل منهما، فالحزب هدفه الرئيسي الوصول للحكم، ويقاس مدى قوته بمدى قدرته على الوصول للحكم (مؤسسة حكم) وبدون ذلك الوصول قد يتعرض للجمود ويفقد التأييد فيترك الحياة السياسية، أما الجماعة السياسية فتمثل نموذجا حياتيا تمارسه أولاً وتدعو له ثانيا ثم تنادي المؤسسات المعنية بتحقيقه لأن التصور الذي تحمله الجماعة يكون تصورا عاما وشاملاً لا تستطيع أن تحققه إلا في بعض المجالات وتدعو الآخرين إلى تحقيقة في المجالات الأخرى.

.الأساس الثالث للمقارنة هو مكان ممارسة التصور الذي يحمله كل منهما  فالجماعة وحدة حياتية أسياسية، فالحزب يمارس الحياة العملية والفعلية في الحكم وإن لم يصل إلى الحكم فإنه يظل يحاول لأن يصل لكي يطبق تصوره أما قبل الوصول فلا شيء سوى عرض تصورات وحملات دعائية. بينما الجماعة فتمارس الحياة الفعلية والعملية في كل لحظات وجودها. ومن خلال التكامل بين الفكر الذي تدعو له الجماعة وتطبيقها الفعلي له في ممارستها الحياتية تزيد ثقة الناس في الجماعة أو تقل.

من خلال العمل السياسي يتغير موقف الحزب السياسي بين الغلبة والتراجع، وبالتالي يختلف وزنه السياسي تبعا لذلك. أما الجماعة فيتحدد وزنها السياسي بحجمها ونفوذها، وعدد الأعضاء، ومكانتهم الاجتماعية، ومدى انتشار الجماعة، وتنوع الشرائح الاجتماعية التي تقبل على الانتماء لها، والقدرات المالية للجماعة. وكذلك يتحدد الوزن الاجتماعي السياسي للجماعة بمدى تأثير نشاطها في الحياة اليومية ومدى وجودها الواقعي الملحوظ في مختلف دروب الحياة. أما مدى قرب الجماعة من السلطة أو بعدها عنها فهو أمر لا يحدد مكانة الجماعة أو وزنها السياسي والاجتماعي بل يحدد دورها السياسي المباشر فقط فعلى سبيل المثال قد ترى الجماعة أن دورها الأساسي هو التأثير في السياسة العامة الاجتماعية والشرعية لتكون من القوى السياسية التي تحدد توجهات الرأي العام ( المعارضة والتوعية السياسية التي كانت تمارسها حركة 6 أبريل باعتبارها جماعة سياسية وليست حزبا - دعم جماعة لمرشح معين للرئاسة دون تقديم مرشح ينافس على الرئاسة). ويمكن أن تجد الجماعة أن دورها الأساسي هو في المشاركة الفاعلة والمؤثرة في التشريع وليس في ممارسة الحكم أوتشكيل حكومة (أعضاء مجلس شعب فقط دون المشاركة في الحكومة).

الاجتماع: مفهوم جديد للسياسة

الصورة العامة للشارع العربي تحتوي على سلسلة من المشاهد التي تتراوح بين حالات الصمت والثورة ، فعندما نفترض السلبية في السلوك السياسي العربي نفاجأ بمشاهد الاحتجاج والثورة والغضب ( المقاومة ضد الاحتلال - عند الاستهانة بتعاليم الأديان والخروج عن أو على التعاليم الدينية ) وعندما نحتاج إلى الفعل الثوري الحاشد نُحبَط برد فعل سلبي خامل .

تختلف قوة مشاركة الشعب ومدى تفاعله مع القضايا ومنطلق طرح القضايا ، فإذا طرحت الأحزاب السياسية قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماماً شعبياً وتبقى حبيسة النخب . وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم و واجبات الزوجة والزوج ، ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها ، وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للعفة والاحتشام سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع . فالسياسة في حد ذاتها ليست هي المجال الذي يجذب رجل الشارع للمشاركة - وإن كانت بالطبع مجالا يثير الاهتمام والمتابعة - . إذا صحّ هذا التصور فهو يصل بنا إلى تفوّق الاجتماع - في الأهمية - على السياسة في الثقافة العربية.

يمكننا إذن أن نتصور وجود مجال اجتماعي وآخر سياسي، والمجال الاجتماعي ليس تابعا للسياسي وهو فرق نظنه مهما بين الثقافة الغربية والثقافة العربية. وبسبب أهمية المجال الاجتماعي واستقلاله النسبي عن المجال السياسي أصبح هذا المجال هو المحل الأول للفعل الإيجابي في الشارع العربي. كذلك فإن المجال الاجتماعي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الديني، بل إن الدين هو المسيطر الحقيقي على المجال الاجتماعي مما يجعل سيطرة أي مجال آخر ليس فقط غير مقبولة، بل سيكون اعتداء على هيمنة الدين على الحياة الاجتماعية للأمة.

عملية التحوّل

جماعة الإخوان المسلمين تمثل جماعة سياسية، وجماعة اجتماعية دينية في آن واحد. ولهذا أسبابه ومسوغاته المعورفة من الجماعة وعنها. والمسوغ النظري المعلن يتكلم عن شمولية الإسلام. وهي مسألة يتفق عليها الفقهاء. ونظرة الجماعة تؤكد أن شمولية الإسلام تدعو لشمولية الجماعة. والحقيقة أن شمولية الجماعة كانت ضرورة في مرحلة التأسيس وهي ضرورة تاريخية، ولكن التنوع الوظيفي سيكون ضرورة مرحلة النهوض، وسيكون ضرورة تاريخية أيضا. لهذا نرى أن المرحلة القادمة تحتاج للجماعات النوعية، التي يكون كل منها قادرا على تقديم رؤية في مجاله، وقادر على العمل المباشر لتغيير واقع بناء على هذه الرؤية وبهذا يمكن أن نرى الجماعات الإسلامية في طور جديد تتوزع فيها على جماعات سياسية وأخرى اجتماعية ودينية، وتبدأ مرحلة النهوض، مرحلة ما بعد التأسيس أي مرحلة التشييد والعمران.

في الواقع الراهن محك فعلي لمسألة العلاقة بين الوضعية الرسمية للأحزاب ودور الجماعات السياسية، يتمثل هذا المحك في قيام بعض الحركات الإسلامية في إنشاء أحزاب سياسية تعبر عنها وتنتمي لها . نحلص من هذا إلى أن تجارب الحركات الإسلامية لإنشاء أحزاب سياسية هي في واقع الأمر تجربة للجماعات الإسلامية للعمل في ظل القانون (مسألة الرسمي والعرفي التي أثرناها في المقال السابق) لأن الجماعات يصعب عليها أن تكون حزبا بالمعنى الإدراي المؤسسي مما ينتج عنه جماعة سياسية تعمل تحت لافتة حزب!

ولكن التوسع بهذا الشكل ومع قَصْر القانون الحالي للأحزاب (ربما يتم تعديله من قِـبَل لجنة تعديل الدستور) مجال عملها في العمل السياسي المحض، سوف يؤدي في جانب منه إلى التوسع من قبل الجماعة في المتاح من نشاط الحزب، كما سيؤدي إلى اعتماد الحركة على نشاطها الاجتماعي خارج الحزب.

والتحول الذي يواجه الحركة الإسلامية يتمثل في مسألة التحول إلى جماعات نوعية لكل منها مجال للعمل، وما نتصوره أن متطلبات المرحلة الراهنة تحتاج إلى تحول الجماعة الإسلامية (التي تتبنّى الفكر الشامل للإسلام) إلى جماعة سياسية، وأخرى اجتماعية دينية، وثالثة اقتصادية وهو ما يعني تحول الجماعة إلى تيار يضم الكثير من الجماعات، وتكون بين الجماعات علاقات اجتماعية وتنسيقية وتضامنية، والأهم يكون بينها وحدة الهدف والرسالة المشتركة مما يجعل من أعمالها على أرض الواقع تيارا من الأفعال التي تشكل معا خطوات متكاملة نحو هدف محدد.

ربما يكون ما نطرحه من تصور صعب على نفوس آمنت بشمولية التنظيم (لا نختلف على شمولية الفكرة!) دهراً من الزمن. صعوبة لا تقل عن صعوبة تطبيقه، تطبيقا ربما تضطر الجماعة له مستقبلاً رغما عنها إن لم تجتهد الآن في البحث في المسألة، وإلا فالزمن سيتكفل بالأمر وربما تكون التجارب الحزبية للجماعات لها شأن كبير في تغيير كثير من القناعات، فترى الجماعة بعدها أن إحكام السيطرة على الشمولية من خلال التنظيم أمرا مجهدا حقاً يستنزف الطاقات ويشتت الجهود، ربما لا تستطيع أن تحافظ عليه مستقبلاً مع توسع العمل وكثرة مساراته، مسارات ربما يكون لها قدم في هيكل الدولة (البرلمان - الحكومة - الرئاسة). إنه اجتهاد وربما كلمة حق، وصرخة في واد، لإن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد!

وللحديث بقية

الإسلاميون ٣ - الأمة قبل الدولة





تحدثنا في المقال السابق وعنوانه الإسلاميون ٣ - الأمة قبل الدولة عن مفهوم الدولة في مقابل الأمة، وخلصنا إلى أن إحياء الأمة رهن بإحياء بناؤها الجماعي، بإمكاننا الآن أن نتعمق في مفهوم السياسة لدى الأمة ونجتهد لنرصد أفضل الطرق للممارسة السياسة وأفضل الكيانات التي يمكن أن تلعب هذا الدور بما يتناسب مع طبيعة تلك المنطقة من العالم.

الاستيراد الحزبي

عرف التاريخ العربي الإسلامي الكثير من الجماعات والتي كان لها دور مؤثر في العمل السياسي. في المقابل لم يعرف التاريخ العربي الإسلامي الأحزابَ بوصفها أداة العمل السياسي، ومع انتشا الحضارة الغربية أصبحت الأحزاب مفهوم يتم تداوله بكثرة، بل ربما أصبح المسار السياسي الشرعي الوحيد للمنافسة السياسية والعمل السياسي. ولكن مع وجود الأحزاب في الشارع لم تختفِ الجماعات بل إن أقوى قوى المعارضة في البلدان العربية جماعات وليست أحزاب. ومن خلال التجارب الحزبية يلاحظ أن الحزب كوعاء لحركة الشارع السياسي لم يحقق النجاح المرجو بل ظل يبدو كيانا غريبا محدود التأثير لهذا نعتقد أنه من الملائم أن نفكر في الحياة السياسية العربية من خلال مفهوم الجماعة لا الحزب. 

إن مدى نجاح أو فشل الأحزاب ليس هو المحرك الوحيد لما نتمناه من تجديد في الفقه السياسي العربي، بل مجمل دورها في الحياة ومدى تأثيرها على حال الأمة وتطورها، نقصد من هذا أن مدى فاعلية الدور السياسي للأحزاب ليس هو معيار تقييمها، ولكن المعيار الذي نعتقد في أهميته هو مدى ملاءمة الفكرة الحزبية ومدى فاعليتها في بلورة روح الأمة وتحريك إمكاناتها.

بين الجماعة والحزب

كي نصل إلى تصور للجماعة والحزب يمكننا أن نعقد بعض المقارنات التي توضح الفرق بينهما

الأساس الأول للمقارنة هو نوع العضوية في كل منهما، فالجماعة تقوم على الارتباط العضوي بين أعضائها بما يشبه علاقة النسب ( علاقات شخصية ) أما العضوية في الأحزاب فتقوم على قبول الفرد لشروط العضوية ثم قبول المؤسسة الحزبية للفرد إذا انطبقت عليه الشروط وهي مسألة إدارية بحتة، ولكن في حالة الجماعة فإن الانضمام لها يبدو اجتماعيا أكثر من كونه إداريا. بهذا نرى أن الانتماء للجماعة أصعب ولكنه أقوى، والانتماء للحزب أسهل ولكنه أضعف لأن الحزب يحقق للفرد وظيفة سياسية محدودة، أما الجماعة فتحقق للفرد وظيفة حياتية مستمرة و واسعة ( منهج حياة).

الأساس الثاني للمقارنة وهو الهدف المرحلي الأول لكل منهما، فالحزب هدفه الرئيسي الوصول للحكم، ويقاس مدى قوته بمدى قدرته على الوصول للحكم ( مؤسسة حكم ) وبدون ذلك الوصول قد يتعرض للجمود ويفقد التأييد فيترك الحياة السياسية، أما الجماعة السياسية فتمثل نموذجا حياتيا تمارسه أولاً وتدعو له ثانيا ثم تنادي المؤسسات المعنية بتحقيقه لأن التصور الذي تحمله الجماعة يكون تصورا عاما وشاملاً لا تستطيع أن تحققه إلا في بعض المجالات وتدعو الآخرين إلى تحقيقة في المجالات الأخرى

.الأساس الثالث للمقارنة هو مكان ممارسة التصور الذي يحمله كل منهما  فالجماعة وحدة حياتية أسياسية، فالحزب يمارس الحياة العملية والفعلية في الحكم وإن لم يصل إلى الحكم فإنه يظل يحاول لأن يصل لكي يطبق تصوره أما قبل الوصول فلا شيء سوى عرض تصورات وحملات دعائية. بينما الجماعة فتمارس الحياة الفعلية والعملية في كل لحظات وجودها. ومن خلال التكامل بين الفكر الذي تدعو له الجماعة وتطبيقها الفعلي له في ممارستها الحياتية تزيد ثقة الناس في الجماعة أو تقل.

من خلال العمل السياسي يتغير موقف الحزب السياسي بين الغلبة والتراجع، وبالتالي يختلف وزنه السياسي تبعا لذلك. أما الجماعة فيتحدد وزنها السياسي بحجمها ونفوذها، وعدد الأعضاء، ومكانتهم الاجتماعية، ومدى انتشار الجماعة، وتنوع الشرائح الاجتماعية التي تقبل على الانتماء لها، والقدرات المالية للجماعة. وكذلك يتحدد الوزن الاجتماعي السياسي للجماعة بمدى تأثير نشاطها في الحياة اليومية ومدى وجودها الواقعي الملحوظ في مختلف دروب الحياة. أما مدى قرب الجماعة من السلطة أو بعدها عنها فهو أمر لا يحدد مكانة الجماعة أو وزنها السياسي و الاجتماعي بل يحدد دورها السياسي المباشر فقط فعلى سبيل المثال قد ترى الجماعة أن دورها الأساسي هو التأثير في السياسة العامة الاجتماعية والشرعية لتكون من القوى السياسية التي تحدد توجهات الرأي العام (المعارضة والتوعية السياسية التي كانت تمارسها حركة 6 أبريل باعتبارها جماعة سياسية وليست حزبا - دعم جماعة لمرشح معين للرئاسة دون تقديم مرشح ينافس على الرئاسي). ويمكن أن تجد الجماعة أن دورها الأساسي هو في المشاركة الفاعلة والمؤثرة في التشريع وليس في ممارسة الحكم أوتشكيل حكومة ( أعضاء مجلس شعب فقط دون المشاركة في الحكومة).

الاجتماع : مفهوم جديد للسياسة

الصورة العامة للشارع العربي تحتوي على سلسلة من المشاهد التي تتراوح بين حالات الصمت والثورة، فعندما نفترض السلبية في السلوك السياسي العربي نفاجأ بمشاهد الاحتجاج والثورة والغضب (المقاومة ضد الاحتلال - عند الاستهانة بتعاليم الأديان والخروج عن أو على التعاليم الدينية) وعندما نحتاج إلى الفعل الثوري الحاشد نُحبَط برد فعل سلبي خامل.

تختلف قوة مشاركة الشعب ومدى تفاعله مع القضايا ومنطلق طرح القضايا، فإذا طرحت الأحزاب السياسية قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماماً شعبياً وتبقى حبيسة النخب. وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم و واجبات الزوجة والزوج، ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها، وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للعفة والاحتشام سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع. فالسياسة في حد ذاتها ليست هي المجال الذي يجذب رجل الشارع للمشاركة - وإن كانت بالطبع مجالا يثير الاهتمام والمتابعة -. إذا صحّ هذا التصور فهو يصل بنا إلى تفوّق الاجتماع - في الأهمية - على السياسة في الثقافة العربية.

يمكننا إذن أن نتصور وجود مجال اجتماعي وآخر سياسي، والمجال الاجتماعي ليس تابعا للسياسي وهو فرق نظنه مهما بين الثقافة الغربية والثقافة العربية. وبسبب أهمية المجال الاجتماعي واستقلاله النسبي عن المجال السياسي أصبح هذا المجال هو المحل الأول للفعل الإيجابي في الشارع العربي. كذلك فإن المجال الاجتماعي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الديني، بل إن الدين هو المسيطر الحقيقي على المجال الاجتماعي مما يجعل سيطرة أي مجال آخر ليس فقط غير مقبولة، بل سيكون اعتداء على هيمنة الدين على الحياة الاجتماعية للأمة.

عملية التحوّل

جماعة الإخوان المسلمين تمثل جماعة سياسية، وجماعة اجتماعية دينية في آن واحد. ولهذا أسبابه ومسوغاته المعورفة من الجماعة وعنها. والمسوغ النظري المعلن يتكلم عن شمولية الإسلام. وهي مسألة يتفق عليها الفقهاء. ونظرة الجماعة تؤكد أن شمولية الإسلام تدعو لشمولية الجماعة. والحقيقة أن شمولية الجماعة كانت ضرورة في مرحلة التأسيس وهي ضرورة تاريخية، ولكن التنوع الوظيفي سيكون ضرورة مرحلة النهوض، وسيكون ضرورة تاريخية أيضا. لهذا نرى أن المرحلة القادمة تحتاج للجماعات النوعية، التي يكون كل منها قادرا على تقديم رؤية في مجاله، وقادر على العمل المباشر لتغيير واقع بناء على هذه الرؤية وبهذا يمكن أن نرى الجماعات الإسلامية في طور جديد تتوزع فيها على جماعات سياسية وأخرى اجتماعية ودينية، وتبدأ مرحلة النهوض، مرحلة ما بعد التأسيس أي مرحلة التشييد والعمران.

في الواقع الراهن محك فعلي لمسألة العلاقة بين الوضعية الرسمية للأحزاب ودور الجماعات السياسية، يتمثل هذا المحك في قيام بعض الحركات الإسلامية في إنشاء أحزاب سياسية تعبر عنها وتنتمي لها. نحلص من هذا إلى أن تجارب الحركات الإسلامية لإنشاء أحزاب سياسية هي في واقع الأمر تجربة للجماعات الإسلامية للعمل في ظل القانون ( مسألة الرسمي والعرفي التي أثرناها في المقال السابق ) لأن الجماعات يصعب عليها أن تكون حزبا بالمعنى الإدراي المؤسسي مما ينتج عنه جماعة سياسية تعمل تحت لافتة حزب!

ولكن التوسع بهذا الشكل ومع قَصْر القانون الحالي للأحزاب ( ربما يتم تعديله من قِـبَل لجنة تعديل الستور ) مجال عملها في العمل السياسي المحض، سوف يؤدي في جانب منه إلى التوسع من قبل الجماعة في المتاح من نشاط الحزب، كما سيؤدي إلى اعتماد الحركة على نشاطها الاجتماعي خارج الحزب.

والتحول الذي يواجه الحركة الإسلامية يتمثل في مسألة التحول إلى جماعات نوعية لكل منها مجال للعمل، وما نتصوره أن متطلبات المرحلة الراهنة تحتاج إلى تحول الجماعة الإسلامية ( التي تتبنّى الفكر الشامل للإسلام ) إلى جماعة سياسية، وأخرى اجتماعية دينية، وثالثة اقتصادية وهو ما يعني تحول الجماعة إلى تيار يضم الكثير من الجماعات، وتكون بين الجماعات علاقات اجتماعية وتنسيقية وتضامنية، والأهم يكون بينها وحدة الهدف والرسالة المشتركة مما يجعل من أعمالها على أرض الواقع تيارا من الأفعال التي تشكل معا خطوات متكاملة نحو هدف محدد.

ربما يكون ما نطرحه من تصور صعب على نفوس آمنت بشمولية التنظيم (لا نختلف على شمولية الفكرة!) دهراً من الزمن. صعوبة لا تقل عن صعوبة تطبيقه، تطبيقا ربما تضطر الجماعة له مستقبلاً رغما عنها إن لم تجتهد الآن في البحث في المسألة، وإلا فالزمن سيتكفل بالأمر وربما تكون التجارب الحزبية للجماعات لها شأن كبير في تغيير كثير من القناعات، فترى الجماعة بعدها أن إحكام السيطرة على الشمولية من خلال التنظيم أمرا مجهدا حقاً يستنزف الطاقات ويشتت الجهود، ربما لا تستطيع أن تحافظ عليه مستقبلاً مع توسع العمل وكثرة مساراته، مسارات ربما يكون لها قدم في هيكل الدولة (البرلمان – الحكومة – الرئاسة). إنه اجتهاد وربما كلمة حق، وصرخة في واد، لإن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد !

 وللحديث بقية

الإسلاميون ٢ - تربية الانفتاح



تحدثنا في المقال السابق والذي كان بعنوان الإسلاميون ١ - نقاط القوة ورصيد النفوس عن نقاط قوة الإسلاميين ورصيدهم في الشارعين الاجتماعي والسياسي، الرصيد الذي يؤهلهم للعب دور هام في تشكيل مستقبل العالم الإسلامي بعد ربيع الثورات العربية، وفي هذا المقال نرصد ملمح آخر من ملامح القوة، ربما يكون ملمحا لا يحظى باهتمام الكثير من أصحاب الفكر والتنظير بل ربما عدّه البعض منهم سببا في تأخر الكثير من الحركات الإسلامية وضياع كثير من الفرص الذهبية من بين أيديهم، ولكنها الحقيقة التي تربينا عليها أن النفوس لا بد لها من تزكية فهي هائجة مائجة مضطربة كاضطراب أمواج هذا البحر وأمراض القلوب لا ترحم، فكيف تمرض نفوس مهمتها شفاء نفوس قوم آخرين، وكيف تقسو قلوب غايتها ترقيق قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، وكيف يظلم صدر مهمته أن يحمل نورا ويمشي به "في" الناس. جانب هام ورئيسي وثابت من الثوابت لدى الحركات الإسلامية التي تحرص على صناعة الرجال حرصاً لا يقل أهمية عن صناعة التغيير المجتمعي والسياسي. ولكن يبدو أنه مع تطور النظريات  والأظروحات السياسية سواء من الإسلاميين أو غيرهم وانتشار وسائل الاتصال الحديثة والانفتاح على الآخر انفتاحاً لا يقل خطورة عن الانعزال أصبح المهتمين بالمجال التربوي في حيرة من أمرهم تسحقهم الحداثة من جهة والتحيّر الفِكْري من جهة أخرى!

ملحوظة هامة: هذا المقال قد يبدو في ظاهره أنه غير ذو فائدة إلا لمن يعمل في إطار تنظيمي إسلامي حركي جماعي يهتم بالتربية كاهتمامه بالفكر والسياسة، إلا أنني أرى أنه هام وضروري ومفيد لكل مسلم حريص على تزكية نفسه بالتوازي مع تغيير المحيط، الحركة ليست حِكراً على أحد والدعوة ليست حِكرا على جماعة "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم" [آل عمران]. أيها المسلمون.. كل المسلمون!

تربية الانفتاح

إن الكثيرين من الذين يقودون عمليتي التأسيس والانفتاح لا يصلحون لأدوار التصعيد، ولكنهم عناصر جاهزة للتدريب على أداء هذا الدور، ولابد من تجديد تربيتهم، وإكسابهم العلوم التي تنقصهم، وتبديل السمت النفسي الذي اكتسبوه من طبائع أعمال المراحل الأولى إلى ما يلائم طبائع العمل السياسي العام.

لا شك أن التربية من أهم نقاط قوة وتماسك التيار الإسلامي وسبب هام للمحافظة على نقاء القلوب وصفاء السرائر وتزكية الأنفس، فالممارسة السياسية تنحت من القلوب نحتاً ولا مفر! إن نظرة التيار الإسلامي للكون توجب على الفرد أن يعمل لآخرته لا لإصلاح دنياه فحسب. بل نقول يصلح دنياه لأجل آخرته، من أجل هذا وأكثر وجبت التربية.

يا للعجب! مع أن الإسلاميين من أكثر الناس حرصاً على تزكية نفوسهم ولا زالوا حريصين على قراءة كتب علماء وأهل التربية كالإمام ابن القيم ليسيروا مع السالكين في مدارجهم في "مدارج السالكين"، والإمام أبو حامد الغزالي ليحيوا قلوبهم في "إحياء علوم الدين"، والشيخ سعيد حوى ليزكوا نفوسهم في "المستخلِص في تزكية الأنفس". أو من المعاصرين كالدكتور خالد أبو شادي والأستاذ فتحي يَكَن والدكتور مجدي الهلالي ومربّي الدعوة العراقي محمد أحمد الراشد. كل هذا وتجدهم أكثر الناس اتهاماً لأنفسهم بالتقصير في جنب الله، يتهمون نفوسهم بأنها مريضة وقلوبهم بأنها مُسْوَدّة فنقرأ في رسائل الإمام حسن البنا "نفسونا التي يجب أن تتغير" و "أينما وُجِد المؤمن الصحيح وُجِدَت معه أسباب النجاح جميعا" و " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم" و "نفوسكم هي الميدان الأول، إذا استطعتم عليها كنتم على غيرها أقدر". في حين نرى غيرهم ممن يعبد الله على حَرْف لا يضطرب قلبه ولا تدمع عينه خشية أن يُطْرَد فيهوي في نار جهنم سبعين خريفا ويظن نفسه بذلك محسنا ويحسبه هينا وهو عند الله عظيم. لله در القائل "إن الطريق إلى الله طويل، كلما ازددت قرباً ازددت بُعدا، وكلما ازددت بُعدا ازددت قرباً"!

من أهم آثار التربية ما سماه الراشد "الحماسة اللاهبة" حيث إن الفقهاء والمفكرين كثير عددهم، ولكن قضية الإسلام الحاضرة تريد أصحاب القلوب الملذوعة، الذين يتفاعلون مع الأحداث أولاً بأول، ولهم تعبّد في مراغمة الباطل ومعاندته ومحاربته، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات الملذوعة. وذلك يعطي لمنهج الدعوة سمتا خاصا في تجاوز مجرد الدراسات الفقهية و التوجيه الفكري القريب من طبيعة المنطق الجامد، إلى مخاطبات قلبيه، تسبقه وتقارنه وتتلوه، تغذي الأرواح وتنمي الأشواق وتحبب البذل وتدفع نحو التضحية والجهاد.

كان للضرورة أحكامها فأباحت المحظورات، فتنازل الإسلاميون عن كثير من وسائلهم التربوية جملة، أو أدوها على غير وجهها الأكمل لحفظ ماء الوجه وذلك أضعف الإيمان. ولا شك، كان لذلك أثره السلبي من اقتصار كثير من الوسائل على الجانب النظري و المدارسة دون الممارسة، ولا شك أن أمراض النفوس تظهر حين تظهر أثناء الحركة والممارسة العملية للمدارسة النظرية، إضافة إلى أن الحركة هي نتاج التربية السليمة . وإذا كنا قد تعلمنا أن "استغلال الموقف نصف التربية" فمن أين لنا بالمواقف دون حركة ! لذلك كان لزاما بعد تفريج الكرب وزوال الغمة أن نؤدي الوسائل التربوية بحقها فلا يقوم عليها إلا أهلها إعداداً وتنفيذاً و تقييما وإلا لما كنا شاكرين لنعم الله علينا " وقليل من عبادي الشكور ".

الأثر السلبي الآخر للتربية المنعزلة هو قلة أو انعدام الاحتكاك بالتيارات الفكرية الأخرى والاكتفاء بالسماع من ذوي التجارب الشخصية التي لا تعتبر سيفاً على رقاب أبناء الحركة ككل، بل هي تجارب شخصية تلعب فيها الظروف الشخصية عاملا هاما، فأصبحت ثقافة الغالبية العظمى من أبناء الحركة الإسلامية ثقافة سماع من أصحاب الممارسة مما أدى بالطبع إلى ضبابية في الرؤية نتج عنه سوء في الحكم، فشاعت لهجة الاستعلاء على الآخر بل أقول احتقار الآخر "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، "إن الله يأمر بالعدل".

-
إذا ذكرت التربية وفقه الدعوة ذكر أول ما يذكر الراشد . نقتبس من كتبه ما يلي.

- سياسة العبادة

إن الطالب لفقه الدعوة سرعان ما يدرك أن التخطيط الإسلامي له سمت خاص يختلف عن الأحزاب العلمانية، يتمثل في الاقتران الكامل بين التربية الإيمانية الأخلاقية والتوغل السياسي.

إن خطتنا ليست هي خطة سياسية مجردة، ولا يكفي فيها العطاء التربوي الذي تتيحه للداعية مواقفه السياسية، بل يجب أن تسبق التدخل السياسي مرحلة تأسيسية مخصصة للتربية والبناء التنظيمي، ثم تظل التربية من بعد وتستمر مواكبة للانفتاح العملي والصراع السياسي، ويكون عطاء المواقف ظهيرا لها ومؤكدا.

إن تاريخ الجماعة يشير إلى أن الجهود التربوية تضمن سلامة العمل وبعده عن الانحراف، وتساعد على انتفاء الفتن ومعالجة الفتور، فوق كونها من الإرشادات الشرعية، وأنها هي السنة العملية التي سار عليها النبي - صلى الله عليخ وسلم - في تكوين أصحابه وتأسيس دولة الإسلام.

وإنما نعنيها بشمولها هذه التربية، فكما أن الممارسة الجماعية والتدريبات العملية وانتصاب القدوات تعتبر جوانب مهمة فيها، فإن العيش في المساجد و تلاوة القرآن الكريم ومجالس دراسة الحديث النبوي الشريف ومطالعة كتب التذكير وسماع الوعظ والتلقين تعتبر جوانب أخرى تماثلها في الأهمية أيضا، أو تمهد لها وتعين على دوام تأثيرها.

هكذا هو الخط الوسط والمقدار الصحيح، وإنما يغفل عنه اثنان:

جافل من سذاجة دعاة يعزفون عن التدخل السياسي ويبالغون في التربية القاعدة الجامدة، فيخرج إلى تطرف ينكر معه أصل التربية كله، ويقذف لسانه في غمرة الحماسة ألفاظا غير موزونة.

وجافل من دعاة يستعجلون وضع أنفسهم في محيط السياسية، ويقربون من التهور، فيخرج إلى تطرف مقابل يتحول به إلى مجرد زاهد عابد.

والصواب ليس مع أحد هذين، بل هو كامن في الشمول والتدرج والاقتران الدائم خلال كل المسار بين التربية والتدخل السياسي.

- الداعية العصري

إن الحديث عن طبائع الذين ندعوهم يجرنا مرغمين إلى الحديث عن طبائع الدعاة وقول فقه الاصطفاء فيها.

وكأن أول ذلك أن نعترف بأن مستوى الكثير  من دعاة الإسلام ما زال متخلّفا عن المستوى اللائق للاشتغال بالسياسة، على عكس الكثير من الساسة الذين نخالفهم، فإنهم قد استطاعوا تدليس باطلهم، وتعميق تأثيراتهم بعديد من الميزات التي برعوا فيها من الثقافة العامة الواسعة، والمطالعات السياسية المكثفة، والدراسات الاقتصادية، والمقدرة على التعرف على الناس وجَوْبِ منتدياتهم، والإلمام بلغة أجنبية وتكميل اطلاعاتهم باستخدامها.

وقلّة منا هم أولئك الذين ارتفعت مستوياتهم ارتفاعا عاليا يؤهلهم للنجاح في أبواب الدعوة العامة، كتحرير الصحف السياسية، وأداء مهمة النيابة البرلمانية، والخطابة، ورئاسة الهيئات الإدارية للجمعيات والنقابات والنوادي، أو عضويتها، أو ما هو أبعد من ذلك من القيام بالوظائف الحكومية الكبيرة، إذ قلة أولئك الذين يصلحون كرجال دولة يتحملون مسؤولية وزارة أو سفارة وما وازى ذلك إذا أردنا تكوين جهاز كامل لحكم أو المشاركة فيها. إن إخلاصنا فريد النوع، وتواضعنا نادر المثال، وأخوتنا عزيزة، وعبادتنا جميلة، ولكن النجاح السياسي أصعب من أن ينال بمجرد ذلك.

صحيح أن أكثر الدعاة يحملون علما جيدا، لكنه العلم الإسلامي في معظمه، ونعما هو: رمز فخر وشرف، ودستور عمل، ودليل سير في دروب الحياة، ولكن تأثيره اليوم يظل محصورا ما لم تظاهره ثقافة عامة شاملة، وأساليب عصرية في تفهيمه باستعمال الدراسات المقارنة، ونقد الواقع الحاضر، واتباع أساليب البحث الحديثة.

وصحيح أيضاً أن فينا أهل نشاط واتصال بالناس، ولكن الكثير منا ينعزلون في مجالس خاصة، ولا يبعدون عن دائرة رواد المساجد، ويستأنسون بطول اللبث يوميا في مجالس العوام، ونعما لبرهان هي على تواضع الداعية، لولا ما فيها من تعويد على الكسل وفتور الذهن، وما سببه الإسراف في التلذذ بها من هجر مجتمعات المثقفين، في نواديهم ونقاباتهم وجمعياتهم وسهراتهم المنزلية ولا بد من إقامة توازن وت وزيع أوقاتنا على أنواع المجالس.

- بذاذة موهومة

وكذلك مظهر الداعية وملبسه، شريك في التأثير، وكثير من دعاة الإسلام يستهويهم أجر البذاذة الإيمانية التي يعتقدونها، فيخالفون عرف المثقفين في اللباس، ويهملون هندامهم، ويلبس لهم من تبرير مقنع، والناس اليوم يلزمها من رفق خطابنا لها ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - للوفود، فإنهم وإن كانوا اليوم مسلمين، إلا أن المعاني الإسلامية التي نتداولها معهم غريبة عليهم، وأوشك أن يصبح المعروف منكراً، ولا بد أن نتجمل للناس في حدود المباح بما لا يخرجنا عن سمت التواضع، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجمل للوفود، باللباس الحسن الأنيق، والنظافة المبالغ فيها، ومسّ الطِّيب، ليألفونه، من غير تقليد للمسرفين، ولا جنوح إلى التشبه بالمتبطرين المبذرين، فإن التوَسُّط ما زال هو الخير في كل الأمور، وربما كفته البدلة الواحدة لسنين.

إن البعض يري أن هذه الأمور من الصغائر التي لا تناسب التذكير القيادي ، وهي في عرف الأوساط السياسية والفكرية كبائر.

- هجرة الأحرار لا يعرقلها ناكص

وعلى كل، فإن التجربة التربوية لا ستبتعد أن تؤدي هذه المطالعات غير الإسلامية التي نحث عليها، و مجالس المثقفين، وهذا التجمل في المظهر، إلى تأثيرات سلبية عند بعض الدعاة، يحب معها الترف والقشور الدنيوية الزائفة ، أو يتكبر على فقراء الدعاة، الذين لا يدري ثقل ميزانهم إلا الله تعالى، أو على غير أصحاب الشهادات الذين ربما فاق علمهم علمه، أو يأخذ يتنطع في فكره و تحليلاته ، و يصير أشبه برائد صالونات سياسية متطلع للمناصب منه بداعية متجرد متواضع همام، إلا أن كثافة المواعظ الصريحة ، و ذكر الرقائق ، و الرقابة القيادية التي تشرف على تعادل الكلام و المنهاج والخطط، و التربية على ما يضاد هذه الأسواء : كل ذلك يجعل العاقبة أكثر سلامة، ومن سقط و لم تنفعه الرقابة و الرقائق : كان سقوطه عندنا مصداقا لاحتمالات تساقط متوقعة في هذا الطريق، كأنها سنة من سنن العمل الجماعي، وليس أنفع لنا آنذاك من رؤية التكذيب الواقعي الحتمي لتدليسات المجازات الحماسية التي توهم قليل التجربة بأن كل من سار على الدرب وصل، كأن ليس في الناس الأعرج، والمريض، والراهب، والشهواني، وفاتر الهمة.

- انتكاس الموازين لا يدوم

ومن أضر الأقيسة هنا : أن يقيس الداعية كلامنا هذا بما حوله من واقع الحزبيين والانقلابيين، فيجد ما أوجبنا غير واجب، إذ يرى نكرات الناس يحكمون، و كل جاهل ليس له عشر علم الداعية المسلم يتصدر، و كل مخالف لفطرة الجمال معني ومظهراً يقول ويتفلسف ويجول.

و ما هكذا تفهم الأمور، فإن الحقبة الأخيرة من التاريخ السياسي لبلادنا شاذة طائشة، و وجدت الطفولة الفكرية و السياسية لها من أكتاف الجمهور الساذج مصعد وصول، فصالت، و التطور الاجتماعي و المدني، و الهدوء التأملي الذي سيخلف هذا القلق: كفيلان بنمو اتجاهين هما في صالح الحركة الإسلامية حتما:

اتجاه ندم الناس على ما كان منهم من خذل لدعاة الإسلام و نصر للحزبيين الذين أذاقوهم مر المتاعب، و ربما مالوا لمحاولة وفاء و تعويض و إقبال على الإسلام.

واتجاه جاهلي آخر على النقيض يحاول تأصيل الفكر العلماني والنزعة الإلحادية، ولكن من خلال التربية والحوار والأساليب الحرة المشتقة من الديمقراطية الغربية لا من خلال الإرهاب، وهو اتجاه في صالح الحركة لإسلامية أيضاً، فإن الإسلام والجاهلية إذا تصارعا في جو من الحرية : كان الإسلام هو الغالب، لقوة الحجة، وموافقة الفطرة، وعند ذاك في تلك المصارعة الحرة، ستبدو أهمية هذه الجوانب في صياغة شخصية الداعية المسلم، والتي أوجبناها آنفا، من الثقافة العامة، وأسلوب البحث الحديث، وإحداث تماس بالمثقفين، والتجمل لهم كما كان الأنبياء عليهم السلام يتجملون.

ولعلنا لا نغالي إذا صرحنا بأن افتقاد عناصرنا لهذه الجوانب الثلاث كان من أسباب الانحجاب عن الناس، وأنها عزلة نحن اخترناها أكثر مما هي عزلة طوقتنا بها حكومات الكفر والأحزاب.

إن مقصدنا واضح، والمعني الذي نذهب إليه صحيح، مع ما عند بعض الدعاة من الاستعداد للانحراف به إلى تفسير دنيوي يبررون به حالهم.

نريد اختلاط الداعية بالمثقفين من الناس في مجالسهم وأنديتهم لكسبهم، ولا يصح أن يفترض أنه مثل بيضة وأنهم أحجار صلدة، يكسرونه ويهشمونه ويسلبونه إيمانه إذا اختلط بهم بل افتراض العكس أولى وأقرب للقياس، فإن المؤمن قوى الحجة، عزيز النفس، وهؤلاء يعيشون في فراغ روحي ليس غير الداعية يقدر على ملئه، وتضللهم شبهات، ليس غير الداعية يكشفها.

-
ختاما، على الإسلاميين أن يدركوا جيداً أن التربية لا تكفي بل هي الحافظة للمسار، المرققة للقلوب، المزكية للأنفس. فالتغيير الاجتماعي السياسي شأنه أعظم من أن يقوم به أصحاب النوايا الحسنة والقلوب السليمة لا غير  "إن إخلاصنا فريد النوع ، وتواضعنا نادر المثال، وأخوتنا عزيزة، وعبادتنا جميلة، ولكن النجاح السياسي أصعب من أن ينال بمجرد ذلك".


و للحديث بقية

Friday, June 15, 2012

الإسلاميون ١ - نقاط القوة ورصيد النفوس


بدايَة

تثير لفظة "الإسلاميون" حفيظة الكثير من المسلمين، بل حفيظة بعض الإسلاميين أنفسهم! لما لها من إيحاء بالتفرقة ووضع حد فاصل بين المسلمين وبين من يطلقون على أنفسهم إسلاميين. ولكن يبدو أيضا أن من أطلق ذلك اللفظ، لفظ الإسلاميون، أراد عن عمد وضع ذلك الحد الفاصل بينهما.

إذا أطلقنا لفظ الإسلاميين فإننا نعني به من يؤمنون بأن الإسلام يحوي بداخله نظاما سياسياً لإدراة شئون البلاد و حفظ مصالح العباد و يطلق عليه البعض مجازا "الإسلام السياسي" أي أن الإسلام دين ودولة، ويؤمنون كذلك أن هناك ما يسمى بالسياسة الشرعية التي كتب عنها الإمام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية".

فهموا الإسلام كما فهمه حسن البنا باعتباره أول الزعماء الإسلاميين وأشهرهم بلا منازع و مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أولى الجماعات الإسلامية الحديثة وأشهرها وأكثرها تأثيرا في الوعي الجمعي لكثير من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، ماليء الدنيا وشاغل الناس، وباعتباره كذلك بالنسبة لخصوم الإسلاميين (ربما من "المسلمين" أنفسهم، لاحظ هنا عداء بعض المسلمين للإسلاميين!) واضع البذرة الأولى لكل شرور الإسلام السياسي، حسن البنا يؤكد هذه الرؤية الشاملة للإسلام، يظهر ذلك بوضوع في رسائله. إذن المشكلة تكمن في ماهية التعامل مع الإسلام نفسه هل هو دين ودولة، مصحف وسيف، أم هو علاقة بين العبد وربه لا تتجاوز المجال الخاص من حياة الأفراد وعليه أن يلتزم الصمت  حيال المجال العام (السياسة والاقتصاد أبرز تجليات المجال العام) في المجتمع (وإن كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رأى أن الأيديولوجيات الكبرى كالعلمانية مثلا، خدعتنا جميعا بوضعها وسائل التأثير والتربية ونقل القيم وأهمها الإعلام، في يد الدولة والنخب الحاكمة فتعدت على حياتنا الخاصة واخترقت كل بيت فلم تدع لنا مجالاً خاصا أو عاما بعد أن ادعت اكتفاءها بالمجال العام) إذن المسلم الذي يؤمن بالليبرالية أو العلمانية لا يندرج تحت الإسلاميين، وعلى الجانب الآخر لا يمكن للإسلاميين الحكم عليه بكلمة الكفر، فخروجا من المأزق ظهرت لفظة "الإسلاميين" وجدير بالذكر أن الإسلاميين وإن لم يحكموا عليه بكلمة الكفر فإنهم يتهمونه بنقص في الدين حيث إنه حصر الدين في الشعائر وجعل السيطرة الكاملة على الدولة والحكم والدساتير والقوانين والأنظمة الجنائية و المعاملات المالية و منظومات نقل القيم تحت رحمة أفكار ومناهج غربية وافدة لا تنتمي للموروث الحضاري للمنطقة العربية الإسلامية. إذن الإسلاميون ينكرون أن يكون هناك مسلم علماني أو مسلم ليبرالي، يرون أن " الإسلام دين شامل ينتظم شئون الحياة جميعاً، فهو دين ودولة أو مصحف وسيف " بهذا النص وضع حسن البنا البذرة الأولى للإسلام السياسي.  إذن كل إسلامي هو مسلم، وليس كل مسلم إسلامي.

-
ليس ثمة شك أن الإسلاميين هم أكثر من يمكنهم الاستفادة من ربيع الثورات العربية الذي لا يكاد ينتهي الفعل الثوري له في دولة حتى يشتغل غيظا وغضباً وصب جمراً وناراً على فرعون آخر في دولة أخرى، لكن قولنا بأنهم أكثر من يمكنهم الاستفادة لا يعني بالضرورة أنهم أكثر المستفيدين!

رصيدُ الإسلاميين ونِقاط القوة
للإسلاميين نقاط قوة تضاعف من رصيدهم لدى الجماهير في الشارعين الاجتماعي و السياسي

- تيار جماهيري حاشد

في حين تبدو الأحزاب العلمانية / الليبرالية وكأنها تفتقد التيار الاجتماعي القادر على حمل برامجها، وفين حين نلاحظ الافتراق بين القاعدة الاجتماعية وبرامج الأحزاب المعارضة الغير إسلامية نجد أن الإسلاميون تيار جماهيري شعبي مجتمعي ذو قدرة هائلة على الحشد ( الاستفتاء على التعديلات - جمعة الإرادة الشعبية ) سواء من الأنصار معتنقي الفكرة المشاركين في التنظيم أو من المؤدين للفكرة دون الالتزام التنظيمي. فبينما يصر العلماني / الليبرالي على الظهور في البرامج الحوارية لإقناع "البسطاء" من الشعب بـ "فِكره" يصر الإسلاميون على التواجد في الشارع الاجتماعي بأعمال مجتمعية خدمية. بالطبع لا يمكن الحكم على تلك الأعمال بأن الهدف الرئيسي منها هو الحصول على الصوت الانتخابي المؤيد كما يحلو للبعض اتهامهم بوضع السم في العسل وهو خوض في النوايا لا يقل سوءا عن الخوض في الأعراض، فأعمال الخير الخدمية هي أهداف إسلامية في حد ذاتها يستمد التيار الإسلامي شرعيتها من النصوص والتعاليم الدينية بعيداً عن الحسابات السياسية. لكن الحقيقة أيضاً أن من يخدم الناس هو الأقرب إليهم، ولا شك كذلك أن تلك الأعمال المجتمعية تولد احتكاكاً بين حاملي الفكر وطبقات المجتمع يولد بالضرورة حوارا وعلاقات إنسانية تصب لصالح الإسلاميين في المطاف الأخير. فالمجتمعات العربية الإسلامية تهتم بالقضايا الاجتماعية اهتماما كبيرا يفوق اهتمامها بالقضايا السياسية البحتة. فعندما نتحدث عن قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماما شعبيا و تبقى حبيسة النخب. وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم وواجبات الزوجة والزوج ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للعفة والاحتشام سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع، ليس فقط الشارع السياسي بل إن صح التعبير الشارع الاجتماعي والديني.

- رصيد الفطرة والعادات والتقاليد

هناك شيئا مختلفا في الوضع الإسلامي، هناك ما يميز الشعوب الإسلامية وحاجاتها وأمانيها، هناك علاقة خاصة تربط بين المسلمين والإسلام والميراث الإسلامي التاريخي. فقد ظل الإسلام الناظم المرجعي لحياة المسلمين ورؤيتهم للعالم طوال قرون. ولم يتراجع هذا الموقع المرجعي بسبب صراع بين الأمة والسلطة الدينية كما تطورت التجربة المسيحية في أوروبا. الحقيقة أن إزاحة الإسلام عن موقعه لم تتم إلا بعنف حركة التحديث وسلطة الإدارات الإمبريالية، وجرت بدون لستشارة الناس، بل وبخلاف إرادتهم في معظم الأحوال. إن أي فكرة تعادي الدين أو تهمّشه ليس لها مستقبل في تلك المنطقة من العالم.

تلعب العادات والتقاليد ورصيد الفطرة في نفوس عامة الشعب دورا بالغ الأهمية حيث لا زالت النفوس تقدس الدين والشريعة الإسلامية. والانطباع الأول بأن العلماني/ الليبرالي ضد الدين أحد أسباب نفور الشعب من هذا التيار فأصبح من الطبيعي جداً أن يقول لك سائق التاكسي أو من يجاورك في المواصلات العامة أن الليبرالية شر محض لأنها ستؤول بنا إلى إباحة الشذوذ وزواج المحارم أو شرب الخمور في الشوارع وتحليل الربا! فالشخص "المتدين" أو "الشيخ" أو "الراجل بتاع ربنا" لا زالت له في النفوس مكانة ومحبة وقدر من الثقة والاطمئنان ترجح من كافة الإسلاميين كثيراً. 

- أصحاب مشروع

الإسلاميون أصحاب مشروع وإن كان كثير منهم حتى الآن لا يستطيع الخروج من فخ الكلام العام العائم إلى نقاط وخطوات وبرامج إصلاحية إجرائية محددة. لكنهم في النهاية أصحاب مشروع يدعون الناس إليه بإظهار محاسنه ورصد التجربة التاريخية يعضد قولهم. بخلاف التيار العلماني / الليبرالي الذي يبدأ خطابه بخطوات سلبية أكثر منها إيجابية كأن يبدأ كلامه بأنه يطالب بفصل الدين عن الدولة، كلمة "فصل" توحي بأن هناك حالة من التلاحم ومن ثم هو يطالب بالفصل وهو قول سلبي لا شك. أو يحذر في بداية الحديث من الدولة الدينية وهو مستغرب أن يبدأ حديثة بـ " فصل " دين عن دولة و" تحذير " من تيار أو فكرة!

- يتكلمون لغة يفهمها الناس

تستخدم القوى الإسلامية لغة يفهمها الناس، يبسطون خطابهم لأبسط أشكاله حتى يستوعبه المواطن (مع ملاحظة أن هذا التبسيط يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى اختزال مخل للأفكار خصوصاً إذا كان الحديث عن الأيدلوجيات الأخرى) بخلاف التيار العلماني/ الليبرالي الذي يجزم بـ "جهل" الشعب وضعف ثقافته و وعيه السياسي فيرى أنه يجب تثقيف الشعب أولاً حتى يفهم لغة النخب، وهو قول و إن كان به كثير من الصحة فهو غير منطقي وغير فعال وغير واقعي ولن يؤدي إلى نتيجة. هذه النقطة وسابقتها تؤديان إلى انعزال فكري بين المجتمع وبين التيار العلماني/ الليبرالي.

- وهم أيدلوجيا الإشباع الروحي 

لا زال بإمكان الدين، أي دين، توفير الإشباع الروحي لبني الإنسان. الإشباع الروحي الذي عجزت الأفكار والشرائع والأيدلوجيات الوضعية عن توفير أبسط أشكاله لبني الإنسان. لا زالت الأيدلوجيات تتتعامل مع الإنسان ببعده المادي، الإنسان ذو البعد الواحد.

خلق الله الإنسان من طين (مادة) ونفخ فيه من روحه (روح) فكان السر الإلهي، والجانب المادي ضروري للكائنات الحية جميعها، الإنسان والحيوان والنبات، يوفره الكائن لنفسه بالأكل والشرب واللبس والتملك والتكاثر، وهو ما وفرته الأيدلوجيات الغير متجاوزة بصورة مذهلة في البداية حتى بدا للسُذّج أنها حملت إليهم الخلاص وحلت لغز الإنسان والحياة، أغرقت في قيم المنفعة واللذة الذي ربما أدى الافتتان بهما في بداية الأمر - خاصة بعد القضاء على وطأة الكنيسة - إلى  شعور معادي للدين، كل الدين، بين كل تلك السعادة اللحظية الكاذبة كان هناك شبح يتسلل في الخفاء رويدا رويدا، شبح الخواء الروحي. بل ريما أصبح التمادي في اللذة حينها (الجنس والاستهلاك) محاولة اليائس لاستجلاب الإشباع الروحي.

من بين كل هذا الوحل والركام أطل الإسلام بقدرة هائلة على الإشباع الروحي تقضي على شعور الإنسان المتزايد بالاغتراب في عالم تسيطر عليه المنفعة واللذة المحرمة والقيم المادية. قدرة هائلة لا تدعو إلى العزلة ولا تناقض السعي والبذل للإعمار بل تدعو إليه وتجازي عليه إحسانا.

وللحديث بقية

Thursday, May 3, 2012

مقدمة كتاب مسافر في قطار الدعوة - محمد أحمد الراشد



من مقدمة كتاب "مسافر في قطار الدعوة" بتصرّف بسيط. الكتاب للداعية المربي عادل الشّويّخ، والمقدمة كتبها أستاذه الداعية المربي محمد أحمد الراشد ينعيه فيها ويتذكره، ما أقساها وما أجملها، رحم الله عادل الشويخ، ورحمنا الله جميعا!

قرأت للأستاذ كامل الشريف، لما أرخ البطولات الإسلامية في مقاومة الإحتلال البريطاني لقناة السويس، أنه كان يعرف بالفراسة علامة الفدائي الذي تنتظره الشهادة قريبا، فيميزه من خلال استبشار يطغي على محياه، و عبر حركة دائبة و نشاط غير عادي يسبق استشهاده.

و هكذا نهاية أخي العزيز الحبيب، و عضدي، و سندي، و صاحبي في دربي، و قريني و تلميذي الدكتور عادل عبدالله الليلي الشويخ البصري رحمه الله رحمة واسعة، و جزاه خيرا، و رفع مقامه في جنان الخلد مع علماء الأمة و الشهداء الصالحين.

كان في ذروة حركته طيلة الموسم الذي سبق رحيله، فقدم له في ماليزيا، و أخرى في مورتاينا، و طاف بأمريكا، و عرج على أوكرانيا ينشر فقه الدعوة، و يلقي الدروس، و يحاور المربين و رواد العمل الإسلامي، حتى حمله شوقه على أن يقصد كردستان العراق مبشرا بالأخوة الإيمانية التي تجمع القوميات، و مشجعا للتيار الإسلامي الكردي الصاعد المتنامي، حتى إذا بلغ ذروة البشارة و النذارة و حلقت أرواح من معه عاليا: نزل فجأة إلى قبر هادئ على سفح تل مهيب في ظاهر مدينة السليمانية بعد حادث سيارة، أكرم الله مثواه.

لكني لم أميز اقتراب موته كما ميز الشريف موت أصحابه، و لم ألتفت إلى تلك العلامات الخيرية الكثيرة التي سبقت إنتقاله إلى جوار الله تعالى، فهزني الحادث و أذهلني، و نفضتني صدمة عنيفة لم أرزح تحت تأثيرها، لا أدري ما أقول، و لا ما أفعل، و غير مهتد لطريق تعويض مكانة أبي عبدالله التربوية، و كل الذي أملكه من تسلية: ثقة بالله تعالى، و أمل بأن يقيم منا سيدا كلما مات سيد.

و إن كان لي فخر، ففخري أن أبا عبدالله كان أكبر تلامذتي، و أمين سري، و النجى الذي أبثه همومي، و المستشار الذي طالما حاورته ففتح لي من نوافذ التفاؤل ما شاء الله ، و أغلق أخرى تطل على أودية التشاؤم، و أنا أسن منه بثمان سنوات، و ترقى علاقتي به إلى ثلاثين سنة، يوم جاء إلى بغداد من البصرة طالبا جامعيا، فكان أوعى من يستوعب دروسي في تأصيل فقه الدعوة، و اكتشفت فيه قرينا مكافئا لا تلميذا، و منذ ذلك اليوم لبث معي على يميني كأرسخ ما يكون الثقة نطور معا مدرسة جديدة و طريقة في إيضاح فقه الدعوة من خلال جرد كتب الفقهاء الأولين و استخراج ما تناثر من أقوالهم مما فيه كشف لمعنى تربوي أو سياسي أو تنظيمي أو تخطيطي، و خلط ذلك بأقوال المعاصرين من الدعاة و المفكرين، و بشواهد تاريخية و بأشعار الحكماء، مع مجازات رمزية و لغة إيمانية، و استدلالات من العلوم التطبيقية، و الخروج من كل ذلك بمزيج متجانس من الكلام الشارح لما ينبغي أن تكون عليه المواقف الدعوية، و قد تلقى الدعاة - بحمد الله- هذه الطريقة بقبول حسن... فكان (أستاذا ونصفا) كما يقال، فقد فاقني وذهب إلى أبعد مني ...


و قد استبد به الزهد في الكلام و إلقاء الدروس قبل سنوات، و اشتكى من سلبية بعض السامعين وعدم مجاراتهم له من خلال الأسئلة الواعية التي تحرك المدرس عادة لمزيد من العطاء، حتى ذكر لي أنه ينوي التوقف عن الكتابة و الكلام احتجاجا، فوجد عندي من هذا المعنى ما هو أكثر، و استولى علينا التبرم، و تعاهدنا على السكوت،

فساق الله إلينا شابا يخرجنا من الخطأ، إذ كنت أجلس مع عادل في مطار استانبول ننتظر الطائرة قافلين من دورة لم نصادف فيها من أسئلة الدعاة ما يشجع، و إذ نحن نتبارى في التلفظ بمرادفات اليأس، إذ بشاب يقبل علينا ثانيا ركبتيه، يسأل:

قال لي: أأنت محمد أحمد الراشد؟
قلت: نعم، هل التقينا سابقا؟
قال: لا، عرفتك من خلال رؤية فيديو كلمتك في مؤتمر هيوستن بأمريكا.
قلت: و من تكون؟
قال: اسمى خالد الموساوى، و أنا جزائري من أهل واحة وادي سوف على بعد ألف كيلو متر عن العاصمة جنوبا على مشارف الصحراء الأفريقية الكبرى قرب أقصى الحدود التونسية، و نحن هناك نقرأ لك و نسمع أشرطتك، و نرى بعض دروسك من خلال الفيديو، و أنا ذاهب إلى الجهاد في أفغانستان.
فرحبنا به، و أبدى سرورة لهذا اللقاء على غير موعد، و سألني عن أمور، و سألته، ثم تنهد مستدركاً.
قال: لكن مازال نصف حلمي لم يتحقق، لم أتعرف بعد إلى عادل.
قلت: فكيف بك إذا أنزلتك معي إلى دبي لأعرفك به.
قال: إذا يكون يوم عيدي، فنحن نسمع دروسه و لم نر صورته عبر الفيديو.

و هنا تدخل عادل رحمه الله، فسأله عما سمعه من أشرطة دروسه دون أن يعرفه بنفسه، فعدد له عناوين دروس عديدة.
فسأله عادل ممتحنا: الدرس الفلاني ماذا يقول فيه؟
قال: كذا، و كذا، و أتى بمختصر معانيه على وجهها.
ثم امتحنه مرارا، يسأله عن دروس أخرى، و الفتى يأتي بالمعاني على وجهها بإتقان أدهشنا.
فقلت له بعد أن ازددت فراسة في صدق توجهه: إذن هذا هو عادل أمامك، هو الذي يمتحنك.
فطار الفتى من الفرح و أذهلته المفاجأة.
قال: كلنا في وادي سوف على هذه الشاكلة، نقرأ و نحفظ و نعيد السماع.
ثم أخرج كتاب الموافقات للشاطبي من خرجه، و قال لعادل: سمعتك في شريط تثني على الكتاب و توجب على الدعاة أن يطالعوه، فاقتنيته ليكون صاحبي في الجهاد.


هذه الحادثة هزت عادلاً و جعلته يوقن بوجود مبلغين أوعى من سامعين، و مال إلى التوبة من اليأس و من الزهد من الكلام، و طفق يقول بعدها: نتكلم لأهل الواحات و الغابات إن خذلنا أهل الحواضر. فكان من ثم إكثاره في السنوات الأخيرة رحمه الله.

لقد كنت و إياه كأننا فريق عمل مشترك، ننضج أفكارنا معا، نرحل معا، و نتكلم معا، و نكتب معا، لذلك شعرت أن نصفي قد مات لما بلغني نعيه، و ما أظن أن أحداً من أصحابه حزن لموته كحزني، و قد تركني أمام تكاليف الحياة لوحدي، أسأمها، و هي الثقيلة علي، و كان المشير علي بعقل و حكمة إذا حزبني أمر ووجدت الأبواب مغلقة.

و قد رثاه الشعراء و أطنب الدعاة في ذكر مناقبة، و كان يريد أن يرثيني ، فها أنا ذا أرثيه، و سبحان الحي الباقي، و قد قال لي يوم سفره: بيننا و بينهم الجنائز، يسليني و يسلي نفسه إزاء لغط وقع فيه بعض أهل الأوهام، و صدق الله ظنه، إذ لم تشهد كردستان جنازة مثل جنازته، و زاد عدد الذين شيعوه على عشرين ألفا، في موكب وقور و تظاهرة إيمانية مميزة، وارتفع النحيب، يبكونه و ما صاحبوه غير يومين، و كثر الذين وصوا أن يدفنوا إذا ماتوا قرب قبره، تحصيلا لشرف الجوار، رحم الله الأحياء و الأموات.

إن قبره في مقبرة الشيخ أحمد الهندي على الطريق الخارج من السليمانية إلى كركوك لهو الوتد العربي الدعوي ظهراني الأكراد، وثَم دليلنا على عمق الأخوة الإيمانية بين الجموع الإسلامية إذا أراد الجمع السعي لعمرانها.

لقد سلك عادل في جادة الدعوة، فـأحسن السلوك، و اكتال من الوفاء ما شاء أن يكتال، و حرص على العلم و التعليم، و مضى مليء اليدين، و طبعت أقدامه أعمق الآثار.

فهل من سالك بعده فيه العوض، يواصل و يتصدى للأجر؟
لقد مر الهمام.. فمن ذا الذي يرشحه القدر لخلافته؟



اللهم يا أرحم الراحمين: أنزل شآبيب رحمتك على عادل و الرهط الذي صدقك من الدعاة و المعلمين و أساتذة التربية الإيمانية و الشهداء و الصالحين، و اغفر لهم، و ارفع مكانهم عندك، و أدخلهم الجنان العاليه، فلقد أتقنوا العمل، فأجزل لهم الثواب، إنك أنت العفو الودود الوهاب.

آمين، وفي كل دعاة الإسلام بركة إذا عزموا عزمات الخير.

Tuesday, December 14, 2010

اللباد يكتب : الخط .. الحرف .. المقدس

قبل أسابيع تركنا مجيي الدين اللباد الفنان و الكاتب الذي نجح على مدى تاريخه القني الطويل أن يجسد ( الهوية ) تراثاً شعبيا عربيا ، " صانع الكتب " كما أطلق عليه حلمي التوني ، و صاحب سلسلة " نظر " غير المسبوقة في الفن التشكيلي العربي . و نحن هذا نذكره بأن ننشر له مقالاً كان قد اختص به " وجهات نظر "

تنويه : تم نشر هذا المقال في كتاب ( نظر 4 ) و لكن مع وجود اختلافات سواء بالزيادة أو النقصان .


لم يكن ما أشيع عن تحريم الإسلام لتصوير الإنسان و الكائنات الحية ، السبب في تبوؤ الخط العربي ماكنته الرفيعة في حياتنا ، و بالتالي انفراد الخط و الزخرفة بميدان الفن البصري كله ، بل أخذ الخط مكانته لأنه كان جزءاً من حضارة و نهضة ثقافية و روحية و فلسفية و فنية رفيعة شملت بلاد الإسلام . كانت تلك النهضة تعبيراً عن الخطوات الواسعة الجريئة التي خطتها البشرية خارج الظلمات و الجهل و العنف و المظالم التي سقطت فيها بلاد العرب و ما حولها لقرون طوال قبل الإسلام .

اكتسب الخط العربي مكانته الرفيعة أيضا لأنه الحامل لكلمات القرآن ، الكتاب الذي قدسه المسلمون على طول ألفية و نصف في مختلف أرجاء الكوكب . و لكن تلك المكانة الرفيعة التي أعلت من شأن الخط العربيو الزخرفة المصاحبة ، و أحاطته بمحيطمن العناية و الوقت و المال و المنزلة الثقافية و الاجتماعية بقصد حمايته و الحفاظ عليه، كانت سبباً في تجميد هذا الفن و في إيقاف تطوره .

في القرون الخمسة الأخيرة ، فهم البعض أن ( حفظ ) القرآن المعني في آية " إنان نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " على أنه - يعني أيضاً - تثبيت طق كتابة نصوصه. و قد ساهم الأتراك العثمانيون في هذا التجميد ، عندما روجوا - في القرن الـ 17 م - لأسلوب كتابة القرآن بالخط النسخي الحديث الذي اشتهر به الخطاط التركي البارع الحافظ عثمان أفندي ( اسطنبول ، 1624 - 1698 م ) الذي كان من أشهر خطاطي المصاحف ( العثمانية ) بالخط النسخي ، التي كتب منها 25 مصحفاً ، طبعت الدولة العثمانية عددا منها انتشر في البلاد الإسلامية .

قبل العثمانيين ، ازدهرت جنات من التنوع الخلاق المبهج في أساليب الخط العربي التي كتبت مصاحف القرآن الكريم ، و طبعت الثقافات المحلية في أركان العالم الإسلامي المختلفة تلك الأساليب بأرواحها المتباينة و المنوعة ، و أغنتها . و كان ذلك بدءاً من الخط الكوفي القديم ( المسمى بكوفي الماصاحف ) ، مروراً بالثلث و النسخي و النستعليق ( الفارسي ) وصولاً إلى الخط العربي المغربي / الأندلسي الذي تحرر من كل القواعد الحرفية ، و أصبح فنا تعبيريا شخصيا و حراً .

إلا أن تقديس الخط العربي لارتباطه بآيات القرآن الكريم الذي يجتهد المسلمون كثيراً لحمياته من أي تحريف أو تبديل ، بلغ درجة جمدت الخط العربي ، و جمدت إبداع الخطاط و التفكيره ، و منعته من الاجتهاد و المراجعة و التجاوز و التحرر و الإبداع و الابتكار .

و شهد فن الخط العربي بعض تقاليد صاحبت فترات ( ازدهاره ) في الدولة العثمانية ، و كان من تلك التقاليد احتفاظ الخطاطين الأساتذة ببرية أقلامهم في علب ذهبية أو فضية جماية لها من دوس الأقدام أو النجاسة ، بعد أن كتبت بها آيات القرآن و لفظ الجلالة . و لنتخيّل ما أدت إيه مظاهر التقديس تلك من تجميد و تحنيط لفن الخط العربي

أدى ذلك التقديس و التجميد و التحنيط إلى تثبيت تصور عند البشر يعارض تحرير الكتابة العربية من إسار التقليد و التكرار ، إذ ساد شعور خفي كما لو أن الخط العربي نزل من السماء ، و كما لو كانت أصول كتاباته قد هبطت إلينا عن طريق ( الوحي ) . و بسبب تلك المواقف نفسها ، عارض سلاطين آل عثمان دخول آلة الطباعة دولتهم ، حتى لا يطبع القرآن بآلة لا روح لها و لا عقل ، و لا عقيدة !


لذلك ، شعر بعض من طالع كتابات الخطاط الشجاع المجتهد مسعد خضير البورسعيدي بشيء من الصدمة أمام ما فعله هذا الخطاط في بعض تجاربه ، حين كتب لوحة بخط النستعليق : " إن الله بالغ أمره " . كان خضير يقصد إرسال تلك الصدمة الرمزية : فلم يجعل حرف ( ـغ ) بدورانه المعروف ( المقدس ) ، بل وضع له بدلاً من الدوران حوض ( ف ) و عاد فوضع دوران الـ ( ـغ ) للهاء الأخيرة .

ما فعله خضير هو مجرد طرح للفكرة و المبدأ : هل نعتبر أساليب الخط العربي أزلية لا يمكن التعديل فيها للحصول على الأصلح و الأنفع و الأكثر ملاءمة أو لا ؟ و الحكم على ما فعله بالإعجاب و التشجيع هو إعجاب بالفكرة و تشجيع لمبدأ المراجعة و الاجتهاد في الخط .

كم هي مبهجة تلك التجربة البسيطة الشجاعة ، التي تتحدى الثبات و الجمود و التحنيط الذي يستقر في روعنا و كأنه تقديس . إنها شجاعة ( لم لا ؟ ) التي يجب أن نستفز بها الجمود . إن الخط العربي هو ابن الإنسانو من إبداع البشر و ليس منزّلاً و لا وحياً ، و الإنسان هو صاحب الحق في مراجعة إبداعه و تطويره و تبديله حسب الحاجة و حسب تبدل الأحوال ، و حسب الوظائف الجديدة للخط و الكتابة .

و مقل هذه التعديلات و التغييرات كانت قد حدثت في الخط العربي بالفعل منذ قرون طويلة و على طول هذه القرون ، حين تطور من الكوفي البدائي إلى السخ و الثلث ، و بعده النستعليق و الرقعة و الديواني ، التي تم فيها تغيير الكثير من ثوابت الأساليب السابقة ، بل و تغير منطق كتابة الخط نفسه ، و لكننا لكتفينا بما استقرت عليه الكتابة سابقاً ، و لم نبدع جديداً بعدها .

التعصب ( الذي شاركنا فيه جميعاً ) و الصراخ بشعار " حماية الخط العربي من العبث و التحوير ) لم يعد موقفاً ناضجاً مسؤولاً ، و جيب علينا جميعاً مراجعته . نعم علينا أن نقيّم و ننقد نتائج محاولات تطوير الخط العربي و نمسح بالرديء منها الأرض . لكن ليس لنا أن نجرّم المحاولة أو نحظرها على أحد . ليس هناك شيء يستمر بدون تبديل و تطوير لمواكبة المتغيرات المتلاحقة في حياتنا

الخط و حرف الطباعة


هناك ضرورة للتفريق القاطع بين كلمتي ( الخطوط - Calligraphy ) و ( تصميم حروف الطباعة - Font ) . و الخطأ في الخط و الالتباس بين التعبيرين خطير . إذ أنه ليس مجرد خطأ في التعبير اللغوي ، بل هو – إذا ما وقع – ستدرج إلى أخطاء عملية ذات تأثير جسيم على المفاهيم و التخطيط و التوجهات في مسارات البحث و الابتكار و التصميم و الاستثمار في مجال حروف الطباعة بأنواعها .
الخط ( Calligraphy ) هو فن شخصي و حرفة فردية يعتمد أداؤها على اليد البشرية ، و على التكوين الشخصي ، و على الذوق ، و على حال الخطاط لحظة خطه لقطعة من العمل بعينها ، لن يتكرر إنتاجها مرة أخرى . و يعتمد الأداء و الأسلوب في الخط على : البحث عن الحل الأمثل لحالة معينة محددة – الارتجال ( بما يشته تقاسيم الموسيقى الارتجالية على مقام معلوم ) – الاستدراك - الفذلكة – الطابع الشخصي التقديري . و يحكم على نتيجة عمل الخطاط على أساس كونها وحدة عمل واحدة متشابكة ، و على أساس تكاملها مع نفسها .

أما الحرف المصمم للطباعة ( Font ) فهو نظام ( System ) وظيفي نمطي ، معدّ للاستعمال العام بواسطة مستخدمين لا تشترط فيهم كفاءات خاصة ، و لا تتوفر لهم – عند استخدامه – فرص للارتجال ، أو الاستدراك ، أو الفذلكة ، أو التجويد ، أو إضفاء الطابع الشخصي و التقديري . و يأخذ قيمت من درجة التواصل ( Communication ) التي تنتج عن الاصطلاح العام على استعماله الواسع .

و قد تغيرت فنون كثيرة بانتقالها إلى وسيط ( Medium )جديد ، أو بتغيرات في تقنيات الوسيط ، و غالبا ما انفرزت منها فنون جديدة مستقلة بذاتها : ذات سيادة ، و غير ملحقة بالأصل . و من هذه الفنون : فن حرف الطباعة ، الذي انفصل عن فن الخط ، مثلما انفصل فن السينما عن فن المسرح ، ثم فن التليفزيون عن فن السينما ، و أصبح لكل فن منهما قوانينه و شروطه الخاصة .

و قد انفك الإسار عن فن حرف الطباعة اللاتيني عندما حرر نفسه من محاولة محاكاة فن الخط اليدوي ، و حين كف عن المراوغة و التحايل على حدود ( Limitations ) الوسيط الجديد التي ( تعجزه ) عن الوصول إلى ( كمال ) الخط اليدوي . تحرر حرف الطباعة حين جعل من تلك الحدود خصوصيات و صفات و قسمات أساسية تميزه ، بل لقد ركز على إبرازها ، و جعل منها فيمه الجمالية الخاصة ، كف الحرف عن اعتبار نفسه من مرتبة أدنى من الخط اليدوي ، فانطلق إلى الأمام و إلى الأعلى .

المسافة شاسعة بين الحرف اللاتيني القوطي ( Gothic ) الذي بدأ به جوتنبرج عام 1450 و بين ما نعرفه الآن من حروف لاتينية . و علميات الابتكار و التطوير فيها لا تزال مستمرة . و يستفيد تصميم الحرف اللاتيني و يتأثر بكل أشكال النمو و التطور في : الصناعة و العلوم ( تطبيقية و إنسانية ) و النظريات الفلسفية و المدارس الفنية ، و بالمتغيرات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية . و يتطور تصميم حرف الطباعة اللاتيني أيذا بالبحث الؤوب في تراث الخط اليدوي و تراث الفنون البصرية ، سواء في الحضارة الغربية أو في الحضارات الأخرى غير اللاتينية . بينما نتجمد نحن و نجمد معنا حروفنا الطباعية ، و لا نزال متوقفين بها عند مرحلة تعادل مرحلة حرف الطباعة القوطي الذي بدأ به جوتنبرج طريقه في القرن 15 مـ ، و لم نترحك بحروفنا إلى الأمام إلا قليلاً !

عرفنا حروف الطباعة العربية ، على نطاق واسع مع حملة نابليون ( 1798 مـ ) و كانت الحروف التي جلبها معه مسبوكة في جنوة و البندقية ( حيث كانت إيطاليا سباقة في صناعتها – منذ القرن الـ 16 – لطباعة ترجمات عربية للكتاب المقدس ) .

لم يختلف الحال كثيراً طوال القرنين اللذين يفصلاننا عن حملة نابليون و مطبعته ، فحتى سنوات قريبة كانت التجارب المحلية قليلة ، و الإسهام المحلي في صياغة الحروف كان قيلاً . أما الاختيار و قرار الإنتاج فكانا – غالباً – اختيار و قرار شركات غبر عربية ، لا تملك المعرفة الكاملة بنا و باحتياجاتنا ، و لا تملك الدراية الثقافية باريخنا و تراثنا في الميدان ، ة لا تعرف أولويات ضروراتنا ، و لا تعني بإنجاز ما يبني لنا تراكماً صحيحاً يؤسس لتنمية ثقافية في بلادنا .

و في النصف الأول من القرن العشرينجرت محاولات عربية جادة قليلة لتطوير حرف الطباعة العربي ، و توصلت دار المعارف المصرية في 1948 مع شركة ( مونوتايب ) البريطانية ، إلى حرف طباعة كامل رفيع المستوى للكتب كان معتمداً على خط النسخ . كتب هذا الخط خطاطون مصريون و أشرف عليه خبير الطباعة يوسف قاروط كما توصلت الشركة الأأخرى ( لينوتايب ) لحرف طباعة مختصر مقبول للصحف و الدوريات ، كان الحرفان المصنعان لغرض صف المتون ، مثلما كانت كل الأبحاث الجادة في مجال حرف الطباعة تدور حول حروف المتن . و ظل الاعتماد – في عناوين الصحف و الدوريات و أغلفة الكتب و الإعلانات المطبوعة و غيرها – على الخطاط اليدوي ، باستثناء تجارب قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع الكفين : في الستينات أنجزت جريدة الأهرام حرفاً حصريا خاصا لعناوينها ( الخطاط عدلي بولس + المصمم المعماري ثم الجرافيكي توفيق بحري ) و في منتصف السبعينات لجأت بعض الصحف الللبنانية ( دار الصيّاد ) إلى طباعة حروف عناوين منفصلة على ورق مصقول ، و كانت العناوين تجمّع منها يدويا بقصها و لصقها متجاورة على ورق ، ثم تصوريها .

و بعد الفطرة في أسعار النفط في منتصف السبعينات ، اهتمت شركة ( ليترايست ) و بعض الشركات الإيطالية الأصغر بالسوق العربية و سوق إيران ، و أنتحت لهما – على عجل – قائمة من حروف العناوين العربية المطبوعة على أسطح شفافة لاصقة ، و قابلة لأن تنقل على الورق . تم الإنتاج في هرولة ، و كانت النتائج – في أغلبها – مشوهة و متدنية المستوى ( يصل بعضها إلى درجة الفكاهة المحزنة ) . و لم يكن منجزو هذه الخطوط خطاطين أكفاء ، و لا مصممين جرافيكيين مبدعين ، بل كانوا من قناصة فرص السوق . لكن هذا الإنتاج سرى في بلادنا المندهشة سريان النار في الهشيم ، و لا يزال الكثير من أحرفه يتسيد السوق ، و يتصدر الصفحات الأولى لصحف عربية كبرى يشترك عدد كبير منها في استخدام نفس الحرف ( المريض ) الذي يجعل تشابهها العام في الشكل و المذاق متقارباً إلى حد كبير .

و دخلت ( ميكانورما / نظيرة الليتراست في فرنسا ) السباق على السوق العربية ، فأنتجت – في هرولة هي الأخرى و عبر فريق صغير من المصممين حديثي العمر و الخبرة – قائمة قليلة العدد من الحروف العربية لم يختلف مستواها عن سابقتها البريطانية ، و لم تلق رواجاً في السوق العربية .

و عندما ازدادت إمكانات الصف الضوئي Photocomposing و اتسعت سوقه في بلادنا ، و كان ضرورياً أن تضيف الشركات إلى حروف آلاتها حروفاً للعناوين ، لم يكن أمام شركة ( لينوتايب ) سوى حروف ( ليتراسيت ) المشوهة إياها ، لتجعلها حروف للعناوين الرئيسية في آلاتها ، و أضافت إليها حروفاً قليلة جديدة ( مشوهة بدورها ) أبدعها نفس الفريق الذي ارتكب الجريمة الأولى . و قد تفكك ذلك الفريق فيما بعد و انقسم إلى شركات متعددة تختص في إنتاج حروف الطباعة و ملحقاتها ، و لا زالت حروفهم هي الرائجة في السرق العربية ، و في قوائم الشركات العالمية الكبرى ، رغم سذاجتهاو ضعفها الباديين .

و مع تسارع ظهور التقنيات و الأدوات المساعدة التي تيسر ( حتى للأفراد ) إنتاج حروف الطباعة للحاسب زاد الهرج و اشتد زحام الميدان و اختلط الحابل بالنابل و ازدحم المولد و زادت هيصته .

و ظل همنا الأكبر - في أغلبه – محاولة لإعادة إنتاح أساليب الخط اليدوي المعقدة في شكل حروف للطباعة : بالأحرف المعدنية البارزة ، أو بالصف الضوئي ، أو على الكمبيوتر . و كم بذلنا من جهود كبيرة من أجل هذه المحاكاة المستحيلة ، و التي يعدّ البعض الاقتراب من النجاح فيها انتصاراً .

لن يمكن بلوغ النجاح ، و لوى رقاب أساليب الخط العربي ، و إدخالها في نسق الكمبيوتر . فالتراكب بين الحروف العربية ، و وجود أكثر من شكل للحرف العربي حسب موقعه و علاقته بالحروف المختلفة السابقة عليه و اللاحفة ، لن يمكّن من ذلك باليسر الذي تتطلبه اقتصاديات الوقت و العمليات في الكمبيوتر .

و لقد كانت مهمة ثقيلة تلك التي صرف المصممون و المطورون فيها جهوداً مضنية طويلة للحصول على خطوط مثل الثلث و الديواني و الفارسي و الرقعة و المغريب عن طريق الكمبيوتر . فهي أساليب لا تتسق مع التركيب الخطي الاستطرادي Linear المعتمد في تتالي حروف الطباعة . و النتائج التي حصلنا عليها – بالكمبيوتر – لتلك الأساليب الكلاسيكية متواضعة و تحفل بالتنازلات في تقاليد الكتابة دون أن تصل إلى تصميمات حديثة متوافقة مع الوظائف الجديدة و الذائقة الجديدة و المعارف الحديثة .

أفكار و تجارب و تطبيقات


علينا الآن النظر بحساسية أقل إلى ضرورة مراجعتنا لكثير مما جعلناه ثوابت في الخط العربي و في علاقتنا به . حتى ننقذ خط الطباعة العربي الذي قيدناه بالخط العربي لدهر طويل . و كانت النداءات و الأفكار التي ارتفعت في الثلث الأول من القرن العشرين لتطوير الكتابة العربية و الطباعة ، و التي قادها عدد من مثقفي مصر و مفكريها و على رأسهم مجمع اللغة العربية و رئيسة عبد العزيز باشا فهمي كانت – في وقتها – عملا جلايئاً يستحق الاحترام و البحث . و كان يجب أن نجرب نطبيق تلك التجارب و الأفكار التي طرحت وقتذاك و بعدها تطبيقاً عملياً – و لو بطريقة معملية – ثم تقييمها . لكننا استسهلنا الرفض السلبي لكل المحاولات الجريئة التالية في النصف الثاني من القرن الماضي ( انظر مثلا محاولات المهندس اللبناني نصري خطار في حروف الطباعة العربية المنفصلة بدءاً من عام 1947 ) .

و قد تعرض القاريء ( بل و الأمي ) العربي – و على مدى نصف قرن على الأقل – لخبرات كثيفة بالحروف اللاتينية الحديثة ، و ازدادت معرفته بمنطقها و دلالاتها القرائية ، و بطرق فك رموزها و بإيماءاتها . و قد تضاعفت تلك الخبرات عدة مرات في العشرين عاما الأخيرة مع توسع سوق الاستهلاك السلعي بتغليفات بضائعة الأجنبية ، و توسع مجال الإعلانات عن السلع الأجنبية المستوردة او المصنعة حالياً ، و مع يسر استقبال الإرسال التلفزيوني الأجنبي ، و ازدياد تدفق المعلومات المطبوعة الواردة إلينا من الخارج . و قد ترتب على هذا تسقرار قدر من الألفة مع اللغة الجرافيكية للأحرف اللاتينية ، و الوعي بقيمها الجمالية و بنظامها البصري و بمعمارها ، في بديهة المواطن العربي .

كانت تصميمات الحروف اللاتينية قد مرت بظروف فرضت تطورها و نموها الدائم ، و منها عمليات الملاءمة لضرورات و وظائف و خصائص إنسانية و عملية و تقنية و اقتصادية مستجدة و متغيرة ، و لم يسبق طرحها على حروف الطياعة من قبل . بينما انقطع تطور حروفنا العربية منذ زمن طويل ، و جمدت في مشيختها الهرمة .

كذلك استفادت من ( إنجازات ) الحروف اللاتينية حروف لغات عديدة غير لاتينية ، و أدخلت إلى تصميماتها قيما بصرية و ابتكارات و اكتشافات و حلولاً توصل إليها الحروف اللاتيني عبر طريق تطوره الطويل ( على سبيل المثال : حروف اللغات السلافية الأصل Cyrillic ( الروسية و البلغارية و الصربية ) – اليونانية – اليابانية و الصينية و الكورية – العبرية – بعض اللغات الهندية ) .


نحن أبضا علينا النظر بحساسية أقل إلى ضرورةاستخدامنا لبعض هذه الإنجازات ، و ضرورة استغلالنا لتلك الخبرات الجديدة للفرد العربي بقيم الحروف اللاتينية و جمالياتها و مقروئيتها ، و ذلك عند تصميم حروف عربية جديدة . و لا صلة لهذه الدعوة بالتقليد المتهافت الأعمى – و من موقع أدنى – لأشكال بعض الحروف اللاتينية و لزماتها الشكلية ، و لا بتلك الأشكال المتهافتة من الحروف ( العربية ) الهجينة التي ظهرت أحيانا في بلادنا خلال العقدين الأخيرين . و يجب أن يتلازم هذا التطلع إلى ما وراء الأفق مع بحث هاديء و عميق و تأمل للداخل : للخط العربي الذي يمثل جوهره جزاءاً حميما من تكويننا الثقافي و الوجداني و الروحي .

...

لنرفع أيدينا عن فن الخط اليدوي حين نتحدث عن حرف الطباعة ، إذ سيعيش الأول فنا جميلاً غالياً راقياً له وظائف الفن الطليعية ، و بحضر جليلاً في الأعمال التطبيقية الهامة الاستثنائية الخصوصية ، كما هو الحال في باقي العالم المتحضر ، بما فيه الهند و كوريا و الصين و اليابان و أمريكا اللاتينية . و علينا رعاية هذا الفن مثل كل فنوننا البصرية الأخرى ، و التعامل معه على هذا الأساس .

و ستظل لوحات الخطاط الفرد إيداعاً خالدا يحتل مواقعهة المتنوعة في حياتنا : في المتحف ، و في المعرض ، و في منازلنا ، و أماكن عملنا ، و على أغلفة كتبنا ، و وثائقنا ، و لافتاتنا ، و علاماتنا التجارية ، و على كل ما نحرص على تمييزه من مصنفاتنا .

أما حرف الطباعة فهو شان آخر جديد يحتاج اتكاتف عدد من التخصصات ، و قد أصبح صنعة و علماً ، له أصوله و مناهجه و معاهده لتكوين المبدعين فيه ، و أصبح الخطاط أحد التخصصات العامة في حقل حرف الطباعة ، و ليس المبدع الوحيد .

...

لم يعد من الجائز أن نشرع في تصميم حروف الطباعة بأساليب محددة من الأساليب التي قسم إليها الخط العربي من قبل : نسخ و رقعة و ثلث و ديواني و كوفي و فارسي و خلافها . إذ أن الضرورة في التحديث قد تحتم خلط او تهجين أساليب مختلفة : تهجين النسخ بالثلث و بلاكوفي القديم ، أو مزاوجة الكوفي الهندسي مع بعض حلول الحروف في الفارسي ، و هكذا .

و إذا ما هدف المصمم إلى تصميم عائلات حروف في ضخيات متباينة ، تؤدي كل منها دورها الخاص في مجال محدد من النشر و المطبوعات ( جريدة يومية ، مجلة سياسية ، شهرية أو فصلية ثقافية ، مجلة خفيفة ، مجلة افتصادية .. إلخ ) لن يكون الطريق هو طريق تصميم حروف بأساليب الخط القديمة الرائعة ، التي لم تعد تعبر عن شيء و لا تقول شيئا ، سوى المباهاة بالإجادة و الإحكام و العظمة .

و بمراجعة تصميماتنا الجرافيكية العربية في النشر و في الصحافة و الإعلان ، قد نكتشف أن من أسباب توقف تطور هذا الإنتاج في بلادنا هو تخلف تصميمات حروف الطباعة العربية . بينما نطالع التصميمات المناظرة في اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية ، فنرى اعتماد تلك التصميمات على التنوع الغني في أشكال حروف الطباعة ، بحيث إن الحروف في أغلب الأحيان تلعب دور البطولة في تصميم الإنتاج الطباعي في النشر و الصحافة و الإعلان .

و أصبح على الدول العربية مجتمعة أن تتعاون في تأسيس معهد لتكوين المصممين لهذه المهنة الجديدة ، يخطط عمله على أساس ظروفنا و احتياجاتنا الخاصة . و ربما كان علينا أن نستعين فيها بأساتذة من خارج بلادنا : من الغرب و من دول العالم الثالث التي سبقتنا إلى هذه التجربة ، مثل الهند و كوريا و اليابان و الصين .

إن استمرار الوضع المتخبط الملتبس القائم في بلادنا في هذا الميدان ، لم يعد تأثيره السلبي ينحصر في تشويه الذوق العام ، و في تعرية أحد تجليات تخلفنا ، بل هو تأثير سلبي فعلي قوي و تراكمي على العقل العربي ، و على الذاكرة الجمعية ، و على الحساسية ، و على الوجدان السليم ، و على قدرتنا على الإبداع و التفكير الحر .