Tuesday, December 14, 2010

اللباد يكتب : الخط .. الحرف .. المقدس

قبل أسابيع تركنا مجيي الدين اللباد الفنان و الكاتب الذي نجح على مدى تاريخه القني الطويل أن يجسد ( الهوية ) تراثاً شعبيا عربيا ، " صانع الكتب " كما أطلق عليه حلمي التوني ، و صاحب سلسلة " نظر " غير المسبوقة في الفن التشكيلي العربي . و نحن هذا نذكره بأن ننشر له مقالاً كان قد اختص به " وجهات نظر "

تنويه : تم نشر هذا المقال في كتاب ( نظر 4 ) و لكن مع وجود اختلافات سواء بالزيادة أو النقصان .


لم يكن ما أشيع عن تحريم الإسلام لتصوير الإنسان و الكائنات الحية ، السبب في تبوؤ الخط العربي ماكنته الرفيعة في حياتنا ، و بالتالي انفراد الخط و الزخرفة بميدان الفن البصري كله ، بل أخذ الخط مكانته لأنه كان جزءاً من حضارة و نهضة ثقافية و روحية و فلسفية و فنية رفيعة شملت بلاد الإسلام . كانت تلك النهضة تعبيراً عن الخطوات الواسعة الجريئة التي خطتها البشرية خارج الظلمات و الجهل و العنف و المظالم التي سقطت فيها بلاد العرب و ما حولها لقرون طوال قبل الإسلام .

اكتسب الخط العربي مكانته الرفيعة أيضا لأنه الحامل لكلمات القرآن ، الكتاب الذي قدسه المسلمون على طول ألفية و نصف في مختلف أرجاء الكوكب . و لكن تلك المكانة الرفيعة التي أعلت من شأن الخط العربيو الزخرفة المصاحبة ، و أحاطته بمحيطمن العناية و الوقت و المال و المنزلة الثقافية و الاجتماعية بقصد حمايته و الحفاظ عليه، كانت سبباً في تجميد هذا الفن و في إيقاف تطوره .

في القرون الخمسة الأخيرة ، فهم البعض أن ( حفظ ) القرآن المعني في آية " إنان نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " على أنه - يعني أيضاً - تثبيت طق كتابة نصوصه. و قد ساهم الأتراك العثمانيون في هذا التجميد ، عندما روجوا - في القرن الـ 17 م - لأسلوب كتابة القرآن بالخط النسخي الحديث الذي اشتهر به الخطاط التركي البارع الحافظ عثمان أفندي ( اسطنبول ، 1624 - 1698 م ) الذي كان من أشهر خطاطي المصاحف ( العثمانية ) بالخط النسخي ، التي كتب منها 25 مصحفاً ، طبعت الدولة العثمانية عددا منها انتشر في البلاد الإسلامية .

قبل العثمانيين ، ازدهرت جنات من التنوع الخلاق المبهج في أساليب الخط العربي التي كتبت مصاحف القرآن الكريم ، و طبعت الثقافات المحلية في أركان العالم الإسلامي المختلفة تلك الأساليب بأرواحها المتباينة و المنوعة ، و أغنتها . و كان ذلك بدءاً من الخط الكوفي القديم ( المسمى بكوفي الماصاحف ) ، مروراً بالثلث و النسخي و النستعليق ( الفارسي ) وصولاً إلى الخط العربي المغربي / الأندلسي الذي تحرر من كل القواعد الحرفية ، و أصبح فنا تعبيريا شخصيا و حراً .

إلا أن تقديس الخط العربي لارتباطه بآيات القرآن الكريم الذي يجتهد المسلمون كثيراً لحمياته من أي تحريف أو تبديل ، بلغ درجة جمدت الخط العربي ، و جمدت إبداع الخطاط و التفكيره ، و منعته من الاجتهاد و المراجعة و التجاوز و التحرر و الإبداع و الابتكار .

و شهد فن الخط العربي بعض تقاليد صاحبت فترات ( ازدهاره ) في الدولة العثمانية ، و كان من تلك التقاليد احتفاظ الخطاطين الأساتذة ببرية أقلامهم في علب ذهبية أو فضية جماية لها من دوس الأقدام أو النجاسة ، بعد أن كتبت بها آيات القرآن و لفظ الجلالة . و لنتخيّل ما أدت إيه مظاهر التقديس تلك من تجميد و تحنيط لفن الخط العربي

أدى ذلك التقديس و التجميد و التحنيط إلى تثبيت تصور عند البشر يعارض تحرير الكتابة العربية من إسار التقليد و التكرار ، إذ ساد شعور خفي كما لو أن الخط العربي نزل من السماء ، و كما لو كانت أصول كتاباته قد هبطت إلينا عن طريق ( الوحي ) . و بسبب تلك المواقف نفسها ، عارض سلاطين آل عثمان دخول آلة الطباعة دولتهم ، حتى لا يطبع القرآن بآلة لا روح لها و لا عقل ، و لا عقيدة !


لذلك ، شعر بعض من طالع كتابات الخطاط الشجاع المجتهد مسعد خضير البورسعيدي بشيء من الصدمة أمام ما فعله هذا الخطاط في بعض تجاربه ، حين كتب لوحة بخط النستعليق : " إن الله بالغ أمره " . كان خضير يقصد إرسال تلك الصدمة الرمزية : فلم يجعل حرف ( ـغ ) بدورانه المعروف ( المقدس ) ، بل وضع له بدلاً من الدوران حوض ( ف ) و عاد فوضع دوران الـ ( ـغ ) للهاء الأخيرة .

ما فعله خضير هو مجرد طرح للفكرة و المبدأ : هل نعتبر أساليب الخط العربي أزلية لا يمكن التعديل فيها للحصول على الأصلح و الأنفع و الأكثر ملاءمة أو لا ؟ و الحكم على ما فعله بالإعجاب و التشجيع هو إعجاب بالفكرة و تشجيع لمبدأ المراجعة و الاجتهاد في الخط .

كم هي مبهجة تلك التجربة البسيطة الشجاعة ، التي تتحدى الثبات و الجمود و التحنيط الذي يستقر في روعنا و كأنه تقديس . إنها شجاعة ( لم لا ؟ ) التي يجب أن نستفز بها الجمود . إن الخط العربي هو ابن الإنسانو من إبداع البشر و ليس منزّلاً و لا وحياً ، و الإنسان هو صاحب الحق في مراجعة إبداعه و تطويره و تبديله حسب الحاجة و حسب تبدل الأحوال ، و حسب الوظائف الجديدة للخط و الكتابة .

و مقل هذه التعديلات و التغييرات كانت قد حدثت في الخط العربي بالفعل منذ قرون طويلة و على طول هذه القرون ، حين تطور من الكوفي البدائي إلى السخ و الثلث ، و بعده النستعليق و الرقعة و الديواني ، التي تم فيها تغيير الكثير من ثوابت الأساليب السابقة ، بل و تغير منطق كتابة الخط نفسه ، و لكننا لكتفينا بما استقرت عليه الكتابة سابقاً ، و لم نبدع جديداً بعدها .

التعصب ( الذي شاركنا فيه جميعاً ) و الصراخ بشعار " حماية الخط العربي من العبث و التحوير ) لم يعد موقفاً ناضجاً مسؤولاً ، و جيب علينا جميعاً مراجعته . نعم علينا أن نقيّم و ننقد نتائج محاولات تطوير الخط العربي و نمسح بالرديء منها الأرض . لكن ليس لنا أن نجرّم المحاولة أو نحظرها على أحد . ليس هناك شيء يستمر بدون تبديل و تطوير لمواكبة المتغيرات المتلاحقة في حياتنا

الخط و حرف الطباعة


هناك ضرورة للتفريق القاطع بين كلمتي ( الخطوط - Calligraphy ) و ( تصميم حروف الطباعة - Font ) . و الخطأ في الخط و الالتباس بين التعبيرين خطير . إذ أنه ليس مجرد خطأ في التعبير اللغوي ، بل هو – إذا ما وقع – ستدرج إلى أخطاء عملية ذات تأثير جسيم على المفاهيم و التخطيط و التوجهات في مسارات البحث و الابتكار و التصميم و الاستثمار في مجال حروف الطباعة بأنواعها .
الخط ( Calligraphy ) هو فن شخصي و حرفة فردية يعتمد أداؤها على اليد البشرية ، و على التكوين الشخصي ، و على الذوق ، و على حال الخطاط لحظة خطه لقطعة من العمل بعينها ، لن يتكرر إنتاجها مرة أخرى . و يعتمد الأداء و الأسلوب في الخط على : البحث عن الحل الأمثل لحالة معينة محددة – الارتجال ( بما يشته تقاسيم الموسيقى الارتجالية على مقام معلوم ) – الاستدراك - الفذلكة – الطابع الشخصي التقديري . و يحكم على نتيجة عمل الخطاط على أساس كونها وحدة عمل واحدة متشابكة ، و على أساس تكاملها مع نفسها .

أما الحرف المصمم للطباعة ( Font ) فهو نظام ( System ) وظيفي نمطي ، معدّ للاستعمال العام بواسطة مستخدمين لا تشترط فيهم كفاءات خاصة ، و لا تتوفر لهم – عند استخدامه – فرص للارتجال ، أو الاستدراك ، أو الفذلكة ، أو التجويد ، أو إضفاء الطابع الشخصي و التقديري . و يأخذ قيمت من درجة التواصل ( Communication ) التي تنتج عن الاصطلاح العام على استعماله الواسع .

و قد تغيرت فنون كثيرة بانتقالها إلى وسيط ( Medium )جديد ، أو بتغيرات في تقنيات الوسيط ، و غالبا ما انفرزت منها فنون جديدة مستقلة بذاتها : ذات سيادة ، و غير ملحقة بالأصل . و من هذه الفنون : فن حرف الطباعة ، الذي انفصل عن فن الخط ، مثلما انفصل فن السينما عن فن المسرح ، ثم فن التليفزيون عن فن السينما ، و أصبح لكل فن منهما قوانينه و شروطه الخاصة .

و قد انفك الإسار عن فن حرف الطباعة اللاتيني عندما حرر نفسه من محاولة محاكاة فن الخط اليدوي ، و حين كف عن المراوغة و التحايل على حدود ( Limitations ) الوسيط الجديد التي ( تعجزه ) عن الوصول إلى ( كمال ) الخط اليدوي . تحرر حرف الطباعة حين جعل من تلك الحدود خصوصيات و صفات و قسمات أساسية تميزه ، بل لقد ركز على إبرازها ، و جعل منها فيمه الجمالية الخاصة ، كف الحرف عن اعتبار نفسه من مرتبة أدنى من الخط اليدوي ، فانطلق إلى الأمام و إلى الأعلى .

المسافة شاسعة بين الحرف اللاتيني القوطي ( Gothic ) الذي بدأ به جوتنبرج عام 1450 و بين ما نعرفه الآن من حروف لاتينية . و علميات الابتكار و التطوير فيها لا تزال مستمرة . و يستفيد تصميم الحرف اللاتيني و يتأثر بكل أشكال النمو و التطور في : الصناعة و العلوم ( تطبيقية و إنسانية ) و النظريات الفلسفية و المدارس الفنية ، و بالمتغيرات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية . و يتطور تصميم حرف الطباعة اللاتيني أيذا بالبحث الؤوب في تراث الخط اليدوي و تراث الفنون البصرية ، سواء في الحضارة الغربية أو في الحضارات الأخرى غير اللاتينية . بينما نتجمد نحن و نجمد معنا حروفنا الطباعية ، و لا نزال متوقفين بها عند مرحلة تعادل مرحلة حرف الطباعة القوطي الذي بدأ به جوتنبرج طريقه في القرن 15 مـ ، و لم نترحك بحروفنا إلى الأمام إلا قليلاً !

عرفنا حروف الطباعة العربية ، على نطاق واسع مع حملة نابليون ( 1798 مـ ) و كانت الحروف التي جلبها معه مسبوكة في جنوة و البندقية ( حيث كانت إيطاليا سباقة في صناعتها – منذ القرن الـ 16 – لطباعة ترجمات عربية للكتاب المقدس ) .

لم يختلف الحال كثيراً طوال القرنين اللذين يفصلاننا عن حملة نابليون و مطبعته ، فحتى سنوات قريبة كانت التجارب المحلية قليلة ، و الإسهام المحلي في صياغة الحروف كان قيلاً . أما الاختيار و قرار الإنتاج فكانا – غالباً – اختيار و قرار شركات غبر عربية ، لا تملك المعرفة الكاملة بنا و باحتياجاتنا ، و لا تملك الدراية الثقافية باريخنا و تراثنا في الميدان ، ة لا تعرف أولويات ضروراتنا ، و لا تعني بإنجاز ما يبني لنا تراكماً صحيحاً يؤسس لتنمية ثقافية في بلادنا .

و في النصف الأول من القرن العشرينجرت محاولات عربية جادة قليلة لتطوير حرف الطباعة العربي ، و توصلت دار المعارف المصرية في 1948 مع شركة ( مونوتايب ) البريطانية ، إلى حرف طباعة كامل رفيع المستوى للكتب كان معتمداً على خط النسخ . كتب هذا الخط خطاطون مصريون و أشرف عليه خبير الطباعة يوسف قاروط كما توصلت الشركة الأأخرى ( لينوتايب ) لحرف طباعة مختصر مقبول للصحف و الدوريات ، كان الحرفان المصنعان لغرض صف المتون ، مثلما كانت كل الأبحاث الجادة في مجال حرف الطباعة تدور حول حروف المتن . و ظل الاعتماد – في عناوين الصحف و الدوريات و أغلفة الكتب و الإعلانات المطبوعة و غيرها – على الخطاط اليدوي ، باستثناء تجارب قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع الكفين : في الستينات أنجزت جريدة الأهرام حرفاً حصريا خاصا لعناوينها ( الخطاط عدلي بولس + المصمم المعماري ثم الجرافيكي توفيق بحري ) و في منتصف السبعينات لجأت بعض الصحف الللبنانية ( دار الصيّاد ) إلى طباعة حروف عناوين منفصلة على ورق مصقول ، و كانت العناوين تجمّع منها يدويا بقصها و لصقها متجاورة على ورق ، ثم تصوريها .

و بعد الفطرة في أسعار النفط في منتصف السبعينات ، اهتمت شركة ( ليترايست ) و بعض الشركات الإيطالية الأصغر بالسوق العربية و سوق إيران ، و أنتحت لهما – على عجل – قائمة من حروف العناوين العربية المطبوعة على أسطح شفافة لاصقة ، و قابلة لأن تنقل على الورق . تم الإنتاج في هرولة ، و كانت النتائج – في أغلبها – مشوهة و متدنية المستوى ( يصل بعضها إلى درجة الفكاهة المحزنة ) . و لم يكن منجزو هذه الخطوط خطاطين أكفاء ، و لا مصممين جرافيكيين مبدعين ، بل كانوا من قناصة فرص السوق . لكن هذا الإنتاج سرى في بلادنا المندهشة سريان النار في الهشيم ، و لا يزال الكثير من أحرفه يتسيد السوق ، و يتصدر الصفحات الأولى لصحف عربية كبرى يشترك عدد كبير منها في استخدام نفس الحرف ( المريض ) الذي يجعل تشابهها العام في الشكل و المذاق متقارباً إلى حد كبير .

و دخلت ( ميكانورما / نظيرة الليتراست في فرنسا ) السباق على السوق العربية ، فأنتجت – في هرولة هي الأخرى و عبر فريق صغير من المصممين حديثي العمر و الخبرة – قائمة قليلة العدد من الحروف العربية لم يختلف مستواها عن سابقتها البريطانية ، و لم تلق رواجاً في السوق العربية .

و عندما ازدادت إمكانات الصف الضوئي Photocomposing و اتسعت سوقه في بلادنا ، و كان ضرورياً أن تضيف الشركات إلى حروف آلاتها حروفاً للعناوين ، لم يكن أمام شركة ( لينوتايب ) سوى حروف ( ليتراسيت ) المشوهة إياها ، لتجعلها حروف للعناوين الرئيسية في آلاتها ، و أضافت إليها حروفاً قليلة جديدة ( مشوهة بدورها ) أبدعها نفس الفريق الذي ارتكب الجريمة الأولى . و قد تفكك ذلك الفريق فيما بعد و انقسم إلى شركات متعددة تختص في إنتاج حروف الطباعة و ملحقاتها ، و لا زالت حروفهم هي الرائجة في السرق العربية ، و في قوائم الشركات العالمية الكبرى ، رغم سذاجتهاو ضعفها الباديين .

و مع تسارع ظهور التقنيات و الأدوات المساعدة التي تيسر ( حتى للأفراد ) إنتاج حروف الطباعة للحاسب زاد الهرج و اشتد زحام الميدان و اختلط الحابل بالنابل و ازدحم المولد و زادت هيصته .

و ظل همنا الأكبر - في أغلبه – محاولة لإعادة إنتاح أساليب الخط اليدوي المعقدة في شكل حروف للطباعة : بالأحرف المعدنية البارزة ، أو بالصف الضوئي ، أو على الكمبيوتر . و كم بذلنا من جهود كبيرة من أجل هذه المحاكاة المستحيلة ، و التي يعدّ البعض الاقتراب من النجاح فيها انتصاراً .

لن يمكن بلوغ النجاح ، و لوى رقاب أساليب الخط العربي ، و إدخالها في نسق الكمبيوتر . فالتراكب بين الحروف العربية ، و وجود أكثر من شكل للحرف العربي حسب موقعه و علاقته بالحروف المختلفة السابقة عليه و اللاحفة ، لن يمكّن من ذلك باليسر الذي تتطلبه اقتصاديات الوقت و العمليات في الكمبيوتر .

و لقد كانت مهمة ثقيلة تلك التي صرف المصممون و المطورون فيها جهوداً مضنية طويلة للحصول على خطوط مثل الثلث و الديواني و الفارسي و الرقعة و المغريب عن طريق الكمبيوتر . فهي أساليب لا تتسق مع التركيب الخطي الاستطرادي Linear المعتمد في تتالي حروف الطباعة . و النتائج التي حصلنا عليها – بالكمبيوتر – لتلك الأساليب الكلاسيكية متواضعة و تحفل بالتنازلات في تقاليد الكتابة دون أن تصل إلى تصميمات حديثة متوافقة مع الوظائف الجديدة و الذائقة الجديدة و المعارف الحديثة .

أفكار و تجارب و تطبيقات


علينا الآن النظر بحساسية أقل إلى ضرورة مراجعتنا لكثير مما جعلناه ثوابت في الخط العربي و في علاقتنا به . حتى ننقذ خط الطباعة العربي الذي قيدناه بالخط العربي لدهر طويل . و كانت النداءات و الأفكار التي ارتفعت في الثلث الأول من القرن العشرين لتطوير الكتابة العربية و الطباعة ، و التي قادها عدد من مثقفي مصر و مفكريها و على رأسهم مجمع اللغة العربية و رئيسة عبد العزيز باشا فهمي كانت – في وقتها – عملا جلايئاً يستحق الاحترام و البحث . و كان يجب أن نجرب نطبيق تلك التجارب و الأفكار التي طرحت وقتذاك و بعدها تطبيقاً عملياً – و لو بطريقة معملية – ثم تقييمها . لكننا استسهلنا الرفض السلبي لكل المحاولات الجريئة التالية في النصف الثاني من القرن الماضي ( انظر مثلا محاولات المهندس اللبناني نصري خطار في حروف الطباعة العربية المنفصلة بدءاً من عام 1947 ) .

و قد تعرض القاريء ( بل و الأمي ) العربي – و على مدى نصف قرن على الأقل – لخبرات كثيفة بالحروف اللاتينية الحديثة ، و ازدادت معرفته بمنطقها و دلالاتها القرائية ، و بطرق فك رموزها و بإيماءاتها . و قد تضاعفت تلك الخبرات عدة مرات في العشرين عاما الأخيرة مع توسع سوق الاستهلاك السلعي بتغليفات بضائعة الأجنبية ، و توسع مجال الإعلانات عن السلع الأجنبية المستوردة او المصنعة حالياً ، و مع يسر استقبال الإرسال التلفزيوني الأجنبي ، و ازدياد تدفق المعلومات المطبوعة الواردة إلينا من الخارج . و قد ترتب على هذا تسقرار قدر من الألفة مع اللغة الجرافيكية للأحرف اللاتينية ، و الوعي بقيمها الجمالية و بنظامها البصري و بمعمارها ، في بديهة المواطن العربي .

كانت تصميمات الحروف اللاتينية قد مرت بظروف فرضت تطورها و نموها الدائم ، و منها عمليات الملاءمة لضرورات و وظائف و خصائص إنسانية و عملية و تقنية و اقتصادية مستجدة و متغيرة ، و لم يسبق طرحها على حروف الطياعة من قبل . بينما انقطع تطور حروفنا العربية منذ زمن طويل ، و جمدت في مشيختها الهرمة .

كذلك استفادت من ( إنجازات ) الحروف اللاتينية حروف لغات عديدة غير لاتينية ، و أدخلت إلى تصميماتها قيما بصرية و ابتكارات و اكتشافات و حلولاً توصل إليها الحروف اللاتيني عبر طريق تطوره الطويل ( على سبيل المثال : حروف اللغات السلافية الأصل Cyrillic ( الروسية و البلغارية و الصربية ) – اليونانية – اليابانية و الصينية و الكورية – العبرية – بعض اللغات الهندية ) .


نحن أبضا علينا النظر بحساسية أقل إلى ضرورةاستخدامنا لبعض هذه الإنجازات ، و ضرورة استغلالنا لتلك الخبرات الجديدة للفرد العربي بقيم الحروف اللاتينية و جمالياتها و مقروئيتها ، و ذلك عند تصميم حروف عربية جديدة . و لا صلة لهذه الدعوة بالتقليد المتهافت الأعمى – و من موقع أدنى – لأشكال بعض الحروف اللاتينية و لزماتها الشكلية ، و لا بتلك الأشكال المتهافتة من الحروف ( العربية ) الهجينة التي ظهرت أحيانا في بلادنا خلال العقدين الأخيرين . و يجب أن يتلازم هذا التطلع إلى ما وراء الأفق مع بحث هاديء و عميق و تأمل للداخل : للخط العربي الذي يمثل جوهره جزاءاً حميما من تكويننا الثقافي و الوجداني و الروحي .

...

لنرفع أيدينا عن فن الخط اليدوي حين نتحدث عن حرف الطباعة ، إذ سيعيش الأول فنا جميلاً غالياً راقياً له وظائف الفن الطليعية ، و بحضر جليلاً في الأعمال التطبيقية الهامة الاستثنائية الخصوصية ، كما هو الحال في باقي العالم المتحضر ، بما فيه الهند و كوريا و الصين و اليابان و أمريكا اللاتينية . و علينا رعاية هذا الفن مثل كل فنوننا البصرية الأخرى ، و التعامل معه على هذا الأساس .

و ستظل لوحات الخطاط الفرد إيداعاً خالدا يحتل مواقعهة المتنوعة في حياتنا : في المتحف ، و في المعرض ، و في منازلنا ، و أماكن عملنا ، و على أغلفة كتبنا ، و وثائقنا ، و لافتاتنا ، و علاماتنا التجارية ، و على كل ما نحرص على تمييزه من مصنفاتنا .

أما حرف الطباعة فهو شان آخر جديد يحتاج اتكاتف عدد من التخصصات ، و قد أصبح صنعة و علماً ، له أصوله و مناهجه و معاهده لتكوين المبدعين فيه ، و أصبح الخطاط أحد التخصصات العامة في حقل حرف الطباعة ، و ليس المبدع الوحيد .

...

لم يعد من الجائز أن نشرع في تصميم حروف الطباعة بأساليب محددة من الأساليب التي قسم إليها الخط العربي من قبل : نسخ و رقعة و ثلث و ديواني و كوفي و فارسي و خلافها . إذ أن الضرورة في التحديث قد تحتم خلط او تهجين أساليب مختلفة : تهجين النسخ بالثلث و بلاكوفي القديم ، أو مزاوجة الكوفي الهندسي مع بعض حلول الحروف في الفارسي ، و هكذا .

و إذا ما هدف المصمم إلى تصميم عائلات حروف في ضخيات متباينة ، تؤدي كل منها دورها الخاص في مجال محدد من النشر و المطبوعات ( جريدة يومية ، مجلة سياسية ، شهرية أو فصلية ثقافية ، مجلة خفيفة ، مجلة افتصادية .. إلخ ) لن يكون الطريق هو طريق تصميم حروف بأساليب الخط القديمة الرائعة ، التي لم تعد تعبر عن شيء و لا تقول شيئا ، سوى المباهاة بالإجادة و الإحكام و العظمة .

و بمراجعة تصميماتنا الجرافيكية العربية في النشر و في الصحافة و الإعلان ، قد نكتشف أن من أسباب توقف تطور هذا الإنتاج في بلادنا هو تخلف تصميمات حروف الطباعة العربية . بينما نطالع التصميمات المناظرة في اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية ، فنرى اعتماد تلك التصميمات على التنوع الغني في أشكال حروف الطباعة ، بحيث إن الحروف في أغلب الأحيان تلعب دور البطولة في تصميم الإنتاج الطباعي في النشر و الصحافة و الإعلان .

و أصبح على الدول العربية مجتمعة أن تتعاون في تأسيس معهد لتكوين المصممين لهذه المهنة الجديدة ، يخطط عمله على أساس ظروفنا و احتياجاتنا الخاصة . و ربما كان علينا أن نستعين فيها بأساتذة من خارج بلادنا : من الغرب و من دول العالم الثالث التي سبقتنا إلى هذه التجربة ، مثل الهند و كوريا و اليابان و الصين .

إن استمرار الوضع المتخبط الملتبس القائم في بلادنا في هذا الميدان ، لم يعد تأثيره السلبي ينحصر في تشويه الذوق العام ، و في تعرية أحد تجليات تخلفنا ، بل هو تأثير سلبي فعلي قوي و تراكمي على العقل العربي ، و على الذاكرة الجمعية ، و على الحساسية ، و على الوجدان السليم ، و على قدرتنا على الإبداع و التفكير الحر .

Thursday, December 9, 2010

هذا السيد .. هذا الدين


نقاط هامة و مقدمة لا مفر منهما

- اتبع المفكرون الإسلاميون في نقد الحضارة الغربية أساليب عدّة نذكر منها هنا أساليب ثلاثة . الأسلوب الأول يمثله الدكتور عبد الوهاب المسيري متمثلاُ في نقد الحضارة الغربية من داخلها بعيداً عن النصوص الإسلامية أو الرؤية الدينية عموماً حيث إنها لا تقع ضمن نقاط الاتفاق و بالتالي لا يمكن بناء الأساس النقدي عليها اللهم إلا تنويهات بسيطة داخل سياق الحديث . أبدع المسيري فيه باقتدار و أثبت عبقريته حيث إنه أثبت ما ستؤول إليه العلمانية الغربية بمنطق عقلي بحت – مرجعيتهم الأولى و الأخيرة – و بيّن عتمة النهاية و سودادوية الخاتمة بل الأدهى من ذل أنه أثبت تضارب بعض نظرياتهم من داخلها فما أثبته – الفيسلوسف العلماني - في البداية ينكره في النهاية و ما أقره في النهاية كان قد نقضه في البداية ! يظهر ذلك جلياً في كتاباته خاصة ( العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة - النظرية ) . الاتجاه الثاني مثّله على عزّت بيجوفيتش و هو طرح ظواهر كونية أو نفسية تعجز النظريات الغربية عن تفسيرها اعتماداً على المرجعية التي تتبناها تلك النظريات الغربية ، كعجز نظرية داروين في التطوّر عن تفسير الجانب النفسي الروحي للإنسان حيث إنه – الجانب الروحي النفسي - لم يتطوّر من الحيوان بل ( خُلِق ) ابتداء في الإنسان ، يتضح ذلك في أشهر كتبه ( الإسلام بين الشرق و الغرب ) . الأسلوب الثالث هو بيان سذاجة الفلسفة الغربية التي تدعو للضحك و السخرية في أغلب الأحيان و الحزن على ما آلوا إيه ، و عدم الخوض كثيراً فيها حيث أنهم أعملوا عقلهم في غير محل الإعمال ، ثم التعمّق في المنهج الإسلامي و الحديث عنه باستفاضة مع بيان أن كثير من القيم الغربية الحسنة مستمدة من الإسلام حينما مُكّن له في الأرض حيث كانت أورويا و المجتمع الغربي لا يزال يتخبط في تيه الظلمات ، و هو ما أبدع فيه الشهيد سيد قطب .

- هناك علاقة عاطفية تربطني بالشهيد سيد قطب ، ليس تعاطفاً معه لأنه ظُلِم حتى شُنِق - كما يتعاطف معه الكثيرين و إن كانوا ذوي ميول غير إسلامية أساساً - ، و ليس لتلك اللغة الأدبية الرائعة التي يكتب بها - و التي أعجبت الكثيرين و إن كانوا من كارهي فكرته ابتداءا - . إنها علاقة حب لا أجد لها مبرراً غير أني أحبه في الله . أحب صورته .. أحب كلامه .. أقرأ له من آن إلى آن فأشعر بسعادة و وضوح للمسار . سيد قطب ، رغم جسده النحيل إلا أنه يحمل قلبا عجيبأ . يميزه أنه جمع بين الفكر و الأدب فعبّر عن أعقد القضايا كالحاكمية و الجهاد بأسلوب أدبي قوي أكثر من رائع .

- عند القراءة للشهيد سيد قطب ينبغي أن تنتبه لنقطة ، فإذا كنت ممن يحبون أن يستفتح الكاتب كلامه بقوله " هذا رأيي الشخصي و هو ما توصلت إيه حتى الآن و ربما يتبين لي غيره و ربما تجدني أنقض ما قلت إذا تبيّن لي ما هو أحق منه " فسيد قطب ليس من ذلك الصنف .. سيد قطب واضح كالشمس ، حاد كالسيف في معظم قضاياه إن لم جميعها على الإطلاق ، لا تنازل ، لا انهزام ، لا تقهقر . هذا هو المنهج و هذا هو الطريق و هذا هو الدين و هذه هي المعالم . من قَبِله فمرحباً به و من لم يقبله فأنا أخلفه الرأي . ناهيك هن لغته الأدبية القوية الشديدة . فإذا كان المسيري قضى أغلب الوقت في إثبات سوء المادية الغربية و لم يوضح لنا تماماً ما نفعله أو نتبعه فإن سيد قطب فعل العكس تماماً لم يرهق نفسه في نقد الحضارة و الفلسفة الغربية بل تجاوزها سريعاً بعد ذكر سريع للمساويء ثم وصفهما بالسخف و توجه مباشرة للمنهج الإسلامي . سيد قطب يمكنك أن تصفه فتقول " قُضِيَ الأمْر " .

- " الحكم على الشيء فرع عن تصوّره " قاعدة هامة عامة يجب اتباعها عند الحكم على فكرة أو شخص ، بل هي أصعب و أعقد عند الحكم على شخص ، فهي تتطلب الإلمام ليس فقط بمعظم ما كتب بل بتجاربه الشخصية في الحياة سواء اعتناقه لأفكار سابقة تنازل عنها فيما بعد ، أو تجارب قاسية في حياته ( اعتقال – نفي - ... ) ، كما تتطلب نبذة سريعة عن أقوال الناس حوله ( قبول عام – رفض تام – قول أو رفض من جهات بعينها معلومة الاتجاه .... ) . فقبل الحكم على الدكتور مصطفى محمود يجب أن ندرك أنه كنا ملحداً و رأى الانغماس في الملذات حد التمرغ في الوحل . و ينبغي ان ندرك أن سيد قطب عاش في السجن فترات طويلة و رأى ما لم نره . و ينبغي أن ندرك أن المسيري رأة نهاية الحضارة المادية بينما ظل البعض منبهراً بثقافة الاستهلاك و الإعلانات التلفزيونية و البهرج الكاذب . إذا أرهقنا عقولنا في التصوّر سنفسّر الكثير من الظوهار و نستطيع أن نفسّر حرقة و شدة لهجة فلان عند حديثه عن القضية الفلسطينية بعد ان نعلم ( نتصوّر ) أن جميع أسرته ماتت تحت الركام إثر قصف صاروخي إسرائيلي ، بينما نفسّر برود فلان الآخر عند الحديث عن نفس القضية فهو لم ير و لم يسمع و لم يجرّب إذ أنه جالس في المكيّف صباح مساء . و بالطبع كلما زاد تصورك إحاطة زاد حكمك دقة .

-
فركن الإسلام الأول : أن نشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .. و شهادة أن لا إله إلا الله ، معناها القريب : إفراد الله – سبحانه – بالألوهية ، و عدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائصها .. و أولى خصائص الألوهية : حق الحاكمية المطلقة ، الذي ينشأ عن حق التشريع للعباد ، و حق وضع المناهج لحياتهم ، و حق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة . فشهادة " أن لا إله إلا الله " لا تقوم و لا تتحقق إلا بالاعتراف بأن لله وحده حق وضع المنهج الذي تجري عليه الحياة البشرية ، و إلا بمحاولة تحقيق ذلك المنهج في حياة البشر ، دون سواه .. و كل من ادعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس ، فقد ادعى حق الألوهية عليهم ، بادعائه أكبر خصائص الألوهية ، و كل من أقره منهم على هذا الادعاء فقد اتخذه إلها من دون الله ،بالاعتراف له بأكبر خصائص الألوهية .. و شهادة أن محمدا رسول الله ، معناها القريب : التصديق بأن هذا المنهج الذي بلغه لنا من الله ، هو حقا منهج الله للحياة البشرية ، و هو وحده المنهج الذي نحن ملزمون بتحقيقه في حياتنا و في حياة البشر جميعاً .

تلك الكلمات الموجزات المزلزلات المقتبسات من كتاب " هذا الدين " يمكننا القول بأنها حجر الزاوية لفكر الشهيد سيد قطب .

فكر الشهيد تجده ملخصا متبلورا في كتابه ( معالم في الطريق ) و ربما يكون هو آخر كتابته ، لكني بعد قراءة كتابه ( هذا الدين ) وجدت فيه خلاصة أخرى تستحق الذكر ، الكتاب يقع في مائة صفحة من العيار المتوسط أو ربما أقل . كلمات مزلزلات كالمدفعية الثقيلة تضرب العقول و القلوب .

عرض سريع موجز لأهم أفكار الكتاب

الإسلام منهج للبشر ، فهم المأمورون بالسعي و الاجتهاد لتطبيقه في واقعهم . و الذي يظن أنه طالما أنه منزل من عند الله فلابد و أن يعمل في حياتنا كمفعول السحر ، أو بكبسة زر هو إنسان لم يدرك و لم يفهم طبيعة هذا الدين . فهو منهج للبشر مرتبط بمجهودهم البشري في حدود طاقتهم البشرية ، و حتمية انتصار الدين ليس معناها حتمية انتصار كل من يؤمن بهذا الدين و يعتقد به بين جنباته و لكنها حتمية انتصار للدين و لمن يبذل وسعه لتحقيق هذا الدين في شخصه و مجتمعه بل في الكون كله .. و لا عيب في الهزيمة إن خالفت تلك النفوس بعض الأوامر فهذا لا يعيب المنهج و لا يحكم بنقصانه في شيء بل هو درس يجب أن نتعلّمه كما تعلمه الصحابة يوم أحد حينما خالفوا الأمر فتعلموا أن النصر و الهزيمة مرتبطان بمدى تحققنا و تخلقنا بالمنهج لا بالمنهج نفسه لكنهم لم يتعلموه بالكلام و العتاب بل تعلموه بالدماء و الآلام ، فتلك الدروس لا تُنسى .

ثم يشرع في وصف لماذا نحن ملزمون بتطبيق هذ المنهج الرباني . فيقول بداية نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج حتى نحقق لأنفسنا صفة الإسلام الذي ندّعيه ، وهو ما ذكرناه أعلاه . و نحن ملزمون كذلك بتحقيقه لأنه المنهج الوحيد الذي يحقق للإنسان إنسانيته ، فالبشر كلهم أمام الله سواسية لأنهم يعبدون إلها واحداً أما في مناهج البشر فهم يعبدون بعضهم بعضاً كما قال تعالى " اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله و المسبح ابن مريم " لم يسجدوا لهم و لكنهم اتبعوهم في تحريمهم الحلال و تحليلهم الحرام ، فتلك عبادتهم إياهم ، فأنت عبد لله و تلك كامل الحرية أمام البشر ، ففي المناهج البشرية – الرومان مثلاً – نجد العبد و السيد و السخرة و الإذلال ، بل حلبات المصارعة التي ساوت بين البشر و الأسود و من ينتصر منهم فله حق البقاء ! أما الإسلام فأنت لست عبداً إلا لله و لا فضل لأحد عليك إلا بالتقوى و العجيب أن تلك التقوى لا يستطيع البشر قياسها و بالتالي فأنت لا تعلم من خير ممن ؟ فليس لبشر على بشر فضل إلا أمام الله " و لقد كرّمنا بني آدم " .. كل بني آدم ! و نحن ملزمون بتطبيق هذا الدين لأن واضعه يدرك الغاية الكبرى من الكون على عكس البشر فهم محدودوا التجربة حتى و إن اجتمعت الأجيال سيظل الجهل حليفهم ،و العقل البشري قاصر عن إدراك الحكمة النهائية " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " . و نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج لأنه المنهج الوحيد الخالي من الأهواء و الأغراض و المطامع الشخصية ، فالله - سبحانه و تعالى - لن يحابي بشراً على بشر أما المناهج البشرية فقلما ما تخلو من المطامع و الأهواء الشخصية لأن البشر ضعاف النفوس فضلاً عن أن بعضهم نفوسهم خبيثة فيستخدمون سلطتهم التشريعية لخدمة شخصه أو أسرته أو قبيلته أو جنسه أو ... إلخ " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " . و نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج لأن واضعه هو واضع نواميس الكون و بالتالي تجد انسياقاً روحياً بينك و بين الكون من حولك على عكس المناهج الوضعية التي أشقت البشرية بعد أن خالفت سنن الكون فانسحقت النفوس و تمزقت ، و رأينا الأمراض النفسية و القلق و الاضطراب يهتك بنفوس المجتمعات الغربية مع قمة التقدم التكنولوجي المادي و مستوبات الدخل الخرافية لأن سنن الله غلابة ، و الدكتور عبد الوهاب المسيري هو خير من يظهر جوانب الضعف بل و الدمار المتمثلة في المناهج الغربية من علمانية و غيرها و لكنه حين يقعل ذلك يفعله من منطلق ليس إسلامي بحت بل من منطلق الإنسان كمخلوق مُكرّم من قبل الخالق . لذلك كله نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج .

و الإسلام اليوم أمامه فرصة عظيمة للسيادة بعد أن عجزت المناهج الغربية و باتت تتخبّط يمنة و يسرة تبدي صموداً كاذباً . فالإسلام يعضده رصيد الفطرة .. رصيده في نفوس البشر جميعاً – مسلمهم و كافرهم – فالضمير لا يموت .. قد يخبو و لكنه لا يموت و تلك من رحمة الله . و كما يعضده رصيد الفطرة يعضده كذلك أثره الذي تركه في نفوس البشر – مسلمهم و كافرهم – يوم أن ساد و حقق حضارة لم تتكرر . كذلك تعضده تلك الإشراقة اللامعة يوم أن ساد فكان المسلمون هم النواة الأولى للعلوم التي اعتبرتها الكنيسة في الماضي إلحاداً و هرطقة و تم القتل و التعذيب و ظهر المستنيرين الذين كرسوا علمهم للانتقام من الكنيسة . و كما يعضده رصيد الفطرة و رصيد التجربة يعضده كذلك رصيد القيمي الذي أرساه في المجتمع يوم أن ساد بعد أن كانت مستنكرة في الجاهلية كحقوق الإنسان ( موقف ابن القبطي مع ابن عمرو بن العاص ) . و من القيم الإنسانية واحدة فبعد عصبيات القبيلة و العشيرة و البيت جاء الإسلام ليجمع القبائل و الشعوب متعارفين لا متناحرين " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا " . و من القيم اجتماع البشر على رابطة العقيدة بعد أن كانوا يتجمعوا على رايطة الجنس و العرف و اللون و اللغة . فجمعهم على أسمى ما في الإنسان .. ما يعتقده و يؤمن به .

إن الإسلام اليوم أمامه فرصة عظيمة ربما تفوق فرصته يوم الجاهلية الأولى يعضده رصيد الفطرة و رصيد التجربة و رصيد القيم التي أقرها و ظلت مستمرة بعد أن تزحزح الإسلام – أو تمت زحزحته - عن الصدارة و حلت محله المادية الغربية المهلكة .

و لكن حتى لا يغتر المسلمون ، فإن كانت الجاهلية التي لاقاها الإسلام يوم أن نزل على محمد جاهلية هوى و عصبيات قبلية و سذاجة و جهل و فتوة، فإن الجاهلية التي يلقاها اليوم هي جاهلية علم و جدال و مراء و تعقيد و استهتار . و لكن رجاؤنا أن الفطرة التي أشقاها الضرب في التيه قد بدأ يبدو عليها التعب و الحنين إلى الله من جديد .

" و كان حقاً علينا نصر المؤمنين " .. قضي الأمر