Monday, April 19, 2010

شيء من الفشل


لطالما لاحقه الفشل في حياته كما يلاحق الموت أحدنا في سكراته الأخيره ، و حينها يتيقن أنه مدركه لا محالة . كان تعارفه على الناس سهلا لينا كطبيعة شخصيته العبوسة القمطريرة و لكن عزاءه الوحيد أنه كان يتقن ( الإفيهات ) ، سريع البديهة ، حاد النظر ، يجري الملايين من الحسابات في عقله في غضون دقائق معدودة ، كان مؤمنا أن كهربته عالية فهو يعبث بأي شيء في يديه ، يجلس مستلقياعلى سريرة قبل النوم ما لا يقل عن ساعة كل ليلة محاولا طرد كمية الأفكار المهولة التي تنصب على ذهنه المسكين ، عندما تهمه نفسه بأمر سوء كالمذاكرة تكون المحصلة ربع ساعة من المذاكرة و ثلاثة أرباع الساعة عبث و رسم و شخابيط في أوراقه التي ما تلبث أن يكون مصيرها سلة المهملات أو داخل الماسح الضوئي ( السكانر ) تمهيدا لرفعها على موقعه الخاص منتظرا مديح أصدقائه .

توفيت والدته ، طبيعي جدا فكلنا سيموت . توفيت كبقية الناس أو إن شئت قل ليس كبقية الناس فهو السبب في ذلك . كانت والدته شديدة الجمال - ليس في نظره فقط و لا في نظر والده حتى - بل في نظر كل صديقاتها . طالما حمد والده الله أنه رزقه بمرأة مثلها جميلة المحيّا جميلة الروح بشوشة الوجه . كانت مريضة بمرض مزمن ، تحتاج لدم من آن لآخر ، كان دائما ما يتبرع بل إن شئت قل كان هو المتبرع الوحيد ، يتبرع بمعدل من شهر و نصف إلى شهرين ، يعلم جيدا أنه يخالف تعليمات الأطباء بكذبه الدائم عليهم عندما يسألونه كم مضى عليك من الوقت منذ آخر مرة تبرعت فيها ؟ فيقول لهم 4 أشهر على أقل تقدير . كان حبه لها أقوى من كرهه للضعف الذي يجده في جسده النحيل بسبب نقص الدم . كان سعيدا بأن بعضا من دمائه يسري في جسدها مما يجعل بينهما نوعا من الاتصال بجانب الاتصال الطبيعي ليرد لها جزء من جميل الحمل و الفصال و معاناة التربية مع أنه في النهاية أصبح فاشلا و لكه ما زال محترما ذو خلق .

توفيت بسببه فدائما ما كان يتصل به والده مستعجلا إياه " تعالى بسرعه أمك محتاجه دم قبل ساعة " فيذهب مسرعا في نصف ساعة تقريبا و عندما يصل يظل منتظرا الأطباء و الإجراءات لمدة تفيض عن الساعتين تقريبا و حينها يغضب . تكرر المشهد مرات و مرات . اتصال .. استعجال .. إسراع في الذهاب .. انتظار لساعتين .. غضب . توفيت و الدته في المرة الرابعة عندما أصر أن يذهب رويدا رويدا فقد اعتاد الموقف و يعلم جيدا ما سيحدث إن ذهب باكرا و لكن والده كان جادا عندما اتصل به بعد ساعة من الاتصال الأول " أنت فين ، أنا مش قلت لك قبل ساعة ؟ " " أنا ف نص السكة ، قربت أوصل متقلقش " " نص السكة ! أمك بتموت " أغلق السماعة و بدأ في الركض حتى ركب أحد سيارات الأجرة . وصل إلى المستشفى ، دخل من البوابة راكضا ، لم يسمع حينها صيحات الحارس مناديا عليه و السباب يقطر من فمه . جرى في الممر الذي حفظه عن ظهر قلب .. الدور الثالث الغرفة الرابعة على اليمين . واجد والده خارج الغرفة يبكي . وصلت الرسالة .
لم يستطع أن يدخل لينظر إليها نظرة وداع فلامبالاته كانت السبب . نظر إليه والده فاستدار و خرج من المشفى .

مشى في شوارع القاهرة أطول مدة مشاها في حياته ، كان يحب المشي لكنه لم يتخيل أن بإمكانه المشي كل تلك المسافة . لم يفكر في شيء بعينه ، أحيانا يبكي ، أحيانا يشرد حتى عاد لبيته فجرا . يذكر أنه فاشل كما يعيره أصدقائه دائما ، يذكر أنه حصل بجدارة على صفة اللامبالاة و البرود و عدم التركيز . جلس على مكتبه و فتح الدرج ، أخرج مئات الخطط التي كان قد خططها لنفسه و فشل في جميعها بجدارة ابتداء بجدول المذاكرة مرورا بخطته في رمضان الماضي و انتهاء بخطته السنوية . كانت جميعها تنتهي بعلامة إكس و بجوارها بالقلم الأحمر ( فاشل ) قال لنفسه " هل سأظل فاشلا هكذا ؟ لازم ييجي يوم و أتغير . أنا مش أول و لا آخر واحد عايز يتغير . أكيد هييجي يوم و أتغير بس آخد خطوة بس و ربنا هيكرم " ظل جالسا على مكتبه و بدون حراك لمدة ساعة خرج بعدها بعزيمة و نية صافية صادقة على تغيير نفسه ( ذكرته كلمة التغيير بحملة البرادعي الذي يؤيده بشده و لكنه لم يوقع على البيان لأنه جبان ) بدأ في كتابة خطة جديدة بروح جديدة ، شعر من داخله أن تلك الخطة تختلف عن أخواتها تماما . شعور داخلي عميق لا يعرف سببه بأنه سوف ينجح و بينما هو منهمك في كتابة الخطة طرق والده الباب " ادخل " " أنا هولع على الرز و مضطر أنزل دلوقتي ، الساعة دلوقتي تلاتة لما تيجي الساعة تلاته و ربه اطفي البوتاجاز " " ماشي " فكر سريعا ، هل يضبط منبه الموبايل على الساعه الثالثة و الربع ؟ أم ييجاهد نفسه و سيتذكر و يعتبر تلك أول خطوة في خطته الجديدة ؟ أصر على أنه سيتذكر و سيجاهد نفسه ثم أكمل كتابة الخطة بحماسة شديدة . و فجأة داعبت أنفه رائحة الشّياط فنظر في جهازه المحمول فإذا بالساعة الثالثة و الثلث ، انتفض و جرى على المطبخ و فتح حلة الرز فإذا به أسود من قرن الخروب . حينها أيقن أنه سيظل فاشلا طوال حياته .

تمّت

3 comments:

  1. جميله ياانس
    حاسس فيها بشعور غريب وكانها بتتكلم فى بعض الحيان عن جزء منى و جزء من حد أعرفه

    ReplyDelete
  2. جميلة......فقط. لأنك لا تستطيع أن تصف الجميل سوى بأنه جميل..

    ReplyDelete
  3. الفشل كلمة لاحقتني طويلا وكنت أحاول دائما التملص منها .. ولكن عندما قررت مواجهتها نجحت ولله الحمد.

    تحياتي لك

    ReplyDelete