Saturday, June 30, 2012

الإسلاميون ٤ - الجماعة والحزب: نحو بديل سياسي حركي



تحدثنا في المقال السابق وعنوانه الإسلاميون ٣ - الأمة قبل الدولة عن مفهوم الدولة في مقابل الأمة، وخلصنا إلى أن إحياء الأمة رهن بإحياء بناؤها الجماعي، بإمكاننا الآن أن نتعمق في مفهوم السياسة لدى الأمة ونجتهد لنرصد أفضل الطرق للممارسة السياسة وأفضل الكيانات التي يمكن أن تلعب هذا الدور بما يتناسب مع طبيعة تلك المنطقة من العالم.

الاستيراد الحزبي

عرف التاريخ العربي الإسلامي الكثير من الجماعات والتي كان لها دور مؤثر في العمل السياسي. في المقابل لم يعرف التاريخ العربي الإسلامي الأحزابَ بوصفها أداة العمل السياسي، ومع انتشا الحضارة الغربية أصبحت الأحزاب مفهوم يتم تداوله بكثرة، بل ربما أصبح المسار السياسي الشرعي الوحيد للمنافسة السياسية والعمل السياسي. ولكن مع وجود الأحزاب في الشارع لم تختفِ الجماعات بل إن أقوى قوى المعارضة في البلدان العربية جماعات وليست أحزابا. ومن خلال التجارب الحزبية يلاحظ أن الحزب كوعاء لحركة الشارع السياسي لم يحقق النجاح المرجو بل ظل يبدو كيانا غريبا محدود التأثير لهذا نعتقد أنه من الملائم أن نفكر في الحياة السياسية العربية من خلال مفهوم الجماعة لا الحزب. 

إن مدى نجاح أو فشل الأحزاب ليس هو المحرك الوحيد لما نتمناه من تجديد في الفقه السياسي العربي، بل مجمل دورها في الحياة ومدى تأثيرها على حال الأمة وتطورها، نقصد من هذا أن مدى فاعلية الدور السياسي للأحزاب ليس هو معيار تقييمها، ولكن المعيار الذي نعتقد في أهميته هو مدى ملاءمة الفكرة الحزبية ومدى فاعليتها في بلورة روح الأمة وتحريك إمكاناتها.

بين الجماعة و الحزب

كي نصل إلى تصور للجماعة والحزب يمكننا أن نعقد بعض المقارنات التي توضح الفرق بينهما

الأساس الأول للمقارنة هو نوع العضوية في كل منهما، فالجماعة تقوم على الارتباط العضوي بين أعضائها بما يشبه علاقة النسب (علاقات شخصية) أما العضوية في الأحزاب فتقوم على قبول الفرد لشروط العضوية ثم قبول المؤسسة الحزبية للفرد إذا انطبقت عليه الشروط وهي مسألة إدارية بحتة، ولكن في حالة الجماعة فإن الانضمام لها يبدو اجتماعيا أكثر من كونه إداريا. بهذا نرى أن الانتماء للجماعة أصعب ولكنه أقوى، والانتماء للحزب أسهل ولكنه أضعف لأن الحزب يحقق للفرد وظيفة سياسية محدودة، أما الجماعة فتحقق للفرد وظيفة حياتية مستمرة و واسعة (منهج حياة).

الأساس الثاني للمقارنة وهو الهدف المرحلي الأول لكل منهما، فالحزب هدفه الرئيسي الوصول للحكم، ويقاس مدى قوته بمدى قدرته على الوصول للحكم (مؤسسة حكم) وبدون ذلك الوصول قد يتعرض للجمود ويفقد التأييد فيترك الحياة السياسية، أما الجماعة السياسية فتمثل نموذجا حياتيا تمارسه أولاً وتدعو له ثانيا ثم تنادي المؤسسات المعنية بتحقيقه لأن التصور الذي تحمله الجماعة يكون تصورا عاما وشاملاً لا تستطيع أن تحققه إلا في بعض المجالات وتدعو الآخرين إلى تحقيقة في المجالات الأخرى.

.الأساس الثالث للمقارنة هو مكان ممارسة التصور الذي يحمله كل منهما  فالجماعة وحدة حياتية أسياسية، فالحزب يمارس الحياة العملية والفعلية في الحكم وإن لم يصل إلى الحكم فإنه يظل يحاول لأن يصل لكي يطبق تصوره أما قبل الوصول فلا شيء سوى عرض تصورات وحملات دعائية. بينما الجماعة فتمارس الحياة الفعلية والعملية في كل لحظات وجودها. ومن خلال التكامل بين الفكر الذي تدعو له الجماعة وتطبيقها الفعلي له في ممارستها الحياتية تزيد ثقة الناس في الجماعة أو تقل.

من خلال العمل السياسي يتغير موقف الحزب السياسي بين الغلبة والتراجع، وبالتالي يختلف وزنه السياسي تبعا لذلك. أما الجماعة فيتحدد وزنها السياسي بحجمها ونفوذها، وعدد الأعضاء، ومكانتهم الاجتماعية، ومدى انتشار الجماعة، وتنوع الشرائح الاجتماعية التي تقبل على الانتماء لها، والقدرات المالية للجماعة. وكذلك يتحدد الوزن الاجتماعي السياسي للجماعة بمدى تأثير نشاطها في الحياة اليومية ومدى وجودها الواقعي الملحوظ في مختلف دروب الحياة. أما مدى قرب الجماعة من السلطة أو بعدها عنها فهو أمر لا يحدد مكانة الجماعة أو وزنها السياسي والاجتماعي بل يحدد دورها السياسي المباشر فقط فعلى سبيل المثال قد ترى الجماعة أن دورها الأساسي هو التأثير في السياسة العامة الاجتماعية والشرعية لتكون من القوى السياسية التي تحدد توجهات الرأي العام ( المعارضة والتوعية السياسية التي كانت تمارسها حركة 6 أبريل باعتبارها جماعة سياسية وليست حزبا - دعم جماعة لمرشح معين للرئاسة دون تقديم مرشح ينافس على الرئاسة). ويمكن أن تجد الجماعة أن دورها الأساسي هو في المشاركة الفاعلة والمؤثرة في التشريع وليس في ممارسة الحكم أوتشكيل حكومة (أعضاء مجلس شعب فقط دون المشاركة في الحكومة).

الاجتماع: مفهوم جديد للسياسة

الصورة العامة للشارع العربي تحتوي على سلسلة من المشاهد التي تتراوح بين حالات الصمت والثورة ، فعندما نفترض السلبية في السلوك السياسي العربي نفاجأ بمشاهد الاحتجاج والثورة والغضب ( المقاومة ضد الاحتلال - عند الاستهانة بتعاليم الأديان والخروج عن أو على التعاليم الدينية ) وعندما نحتاج إلى الفعل الثوري الحاشد نُحبَط برد فعل سلبي خامل .

تختلف قوة مشاركة الشعب ومدى تفاعله مع القضايا ومنطلق طرح القضايا ، فإذا طرحت الأحزاب السياسية قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماماً شعبياً وتبقى حبيسة النخب . وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم و واجبات الزوجة والزوج ، ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها ، وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للعفة والاحتشام سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع . فالسياسة في حد ذاتها ليست هي المجال الذي يجذب رجل الشارع للمشاركة - وإن كانت بالطبع مجالا يثير الاهتمام والمتابعة - . إذا صحّ هذا التصور فهو يصل بنا إلى تفوّق الاجتماع - في الأهمية - على السياسة في الثقافة العربية.

يمكننا إذن أن نتصور وجود مجال اجتماعي وآخر سياسي، والمجال الاجتماعي ليس تابعا للسياسي وهو فرق نظنه مهما بين الثقافة الغربية والثقافة العربية. وبسبب أهمية المجال الاجتماعي واستقلاله النسبي عن المجال السياسي أصبح هذا المجال هو المحل الأول للفعل الإيجابي في الشارع العربي. كذلك فإن المجال الاجتماعي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الديني، بل إن الدين هو المسيطر الحقيقي على المجال الاجتماعي مما يجعل سيطرة أي مجال آخر ليس فقط غير مقبولة، بل سيكون اعتداء على هيمنة الدين على الحياة الاجتماعية للأمة.

عملية التحوّل

جماعة الإخوان المسلمين تمثل جماعة سياسية، وجماعة اجتماعية دينية في آن واحد. ولهذا أسبابه ومسوغاته المعورفة من الجماعة وعنها. والمسوغ النظري المعلن يتكلم عن شمولية الإسلام. وهي مسألة يتفق عليها الفقهاء. ونظرة الجماعة تؤكد أن شمولية الإسلام تدعو لشمولية الجماعة. والحقيقة أن شمولية الجماعة كانت ضرورة في مرحلة التأسيس وهي ضرورة تاريخية، ولكن التنوع الوظيفي سيكون ضرورة مرحلة النهوض، وسيكون ضرورة تاريخية أيضا. لهذا نرى أن المرحلة القادمة تحتاج للجماعات النوعية، التي يكون كل منها قادرا على تقديم رؤية في مجاله، وقادر على العمل المباشر لتغيير واقع بناء على هذه الرؤية وبهذا يمكن أن نرى الجماعات الإسلامية في طور جديد تتوزع فيها على جماعات سياسية وأخرى اجتماعية ودينية، وتبدأ مرحلة النهوض، مرحلة ما بعد التأسيس أي مرحلة التشييد والعمران.

في الواقع الراهن محك فعلي لمسألة العلاقة بين الوضعية الرسمية للأحزاب ودور الجماعات السياسية، يتمثل هذا المحك في قيام بعض الحركات الإسلامية في إنشاء أحزاب سياسية تعبر عنها وتنتمي لها . نحلص من هذا إلى أن تجارب الحركات الإسلامية لإنشاء أحزاب سياسية هي في واقع الأمر تجربة للجماعات الإسلامية للعمل في ظل القانون (مسألة الرسمي والعرفي التي أثرناها في المقال السابق) لأن الجماعات يصعب عليها أن تكون حزبا بالمعنى الإدراي المؤسسي مما ينتج عنه جماعة سياسية تعمل تحت لافتة حزب!

ولكن التوسع بهذا الشكل ومع قَصْر القانون الحالي للأحزاب (ربما يتم تعديله من قِـبَل لجنة تعديل الدستور) مجال عملها في العمل السياسي المحض، سوف يؤدي في جانب منه إلى التوسع من قبل الجماعة في المتاح من نشاط الحزب، كما سيؤدي إلى اعتماد الحركة على نشاطها الاجتماعي خارج الحزب.

والتحول الذي يواجه الحركة الإسلامية يتمثل في مسألة التحول إلى جماعات نوعية لكل منها مجال للعمل، وما نتصوره أن متطلبات المرحلة الراهنة تحتاج إلى تحول الجماعة الإسلامية (التي تتبنّى الفكر الشامل للإسلام) إلى جماعة سياسية، وأخرى اجتماعية دينية، وثالثة اقتصادية وهو ما يعني تحول الجماعة إلى تيار يضم الكثير من الجماعات، وتكون بين الجماعات علاقات اجتماعية وتنسيقية وتضامنية، والأهم يكون بينها وحدة الهدف والرسالة المشتركة مما يجعل من أعمالها على أرض الواقع تيارا من الأفعال التي تشكل معا خطوات متكاملة نحو هدف محدد.

ربما يكون ما نطرحه من تصور صعب على نفوس آمنت بشمولية التنظيم (لا نختلف على شمولية الفكرة!) دهراً من الزمن. صعوبة لا تقل عن صعوبة تطبيقه، تطبيقا ربما تضطر الجماعة له مستقبلاً رغما عنها إن لم تجتهد الآن في البحث في المسألة، وإلا فالزمن سيتكفل بالأمر وربما تكون التجارب الحزبية للجماعات لها شأن كبير في تغيير كثير من القناعات، فترى الجماعة بعدها أن إحكام السيطرة على الشمولية من خلال التنظيم أمرا مجهدا حقاً يستنزف الطاقات ويشتت الجهود، ربما لا تستطيع أن تحافظ عليه مستقبلاً مع توسع العمل وكثرة مساراته، مسارات ربما يكون لها قدم في هيكل الدولة (البرلمان - الحكومة - الرئاسة). إنه اجتهاد وربما كلمة حق، وصرخة في واد، لإن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد!

وللحديث بقية

الإسلاميون ٣ - الأمة قبل الدولة





تحدثنا في المقال السابق وعنوانه الإسلاميون ٣ - الأمة قبل الدولة عن مفهوم الدولة في مقابل الأمة، وخلصنا إلى أن إحياء الأمة رهن بإحياء بناؤها الجماعي، بإمكاننا الآن أن نتعمق في مفهوم السياسة لدى الأمة ونجتهد لنرصد أفضل الطرق للممارسة السياسة وأفضل الكيانات التي يمكن أن تلعب هذا الدور بما يتناسب مع طبيعة تلك المنطقة من العالم.

الاستيراد الحزبي

عرف التاريخ العربي الإسلامي الكثير من الجماعات والتي كان لها دور مؤثر في العمل السياسي. في المقابل لم يعرف التاريخ العربي الإسلامي الأحزابَ بوصفها أداة العمل السياسي، ومع انتشا الحضارة الغربية أصبحت الأحزاب مفهوم يتم تداوله بكثرة، بل ربما أصبح المسار السياسي الشرعي الوحيد للمنافسة السياسية والعمل السياسي. ولكن مع وجود الأحزاب في الشارع لم تختفِ الجماعات بل إن أقوى قوى المعارضة في البلدان العربية جماعات وليست أحزاب. ومن خلال التجارب الحزبية يلاحظ أن الحزب كوعاء لحركة الشارع السياسي لم يحقق النجاح المرجو بل ظل يبدو كيانا غريبا محدود التأثير لهذا نعتقد أنه من الملائم أن نفكر في الحياة السياسية العربية من خلال مفهوم الجماعة لا الحزب. 

إن مدى نجاح أو فشل الأحزاب ليس هو المحرك الوحيد لما نتمناه من تجديد في الفقه السياسي العربي، بل مجمل دورها في الحياة ومدى تأثيرها على حال الأمة وتطورها، نقصد من هذا أن مدى فاعلية الدور السياسي للأحزاب ليس هو معيار تقييمها، ولكن المعيار الذي نعتقد في أهميته هو مدى ملاءمة الفكرة الحزبية ومدى فاعليتها في بلورة روح الأمة وتحريك إمكاناتها.

بين الجماعة والحزب

كي نصل إلى تصور للجماعة والحزب يمكننا أن نعقد بعض المقارنات التي توضح الفرق بينهما

الأساس الأول للمقارنة هو نوع العضوية في كل منهما، فالجماعة تقوم على الارتباط العضوي بين أعضائها بما يشبه علاقة النسب ( علاقات شخصية ) أما العضوية في الأحزاب فتقوم على قبول الفرد لشروط العضوية ثم قبول المؤسسة الحزبية للفرد إذا انطبقت عليه الشروط وهي مسألة إدارية بحتة، ولكن في حالة الجماعة فإن الانضمام لها يبدو اجتماعيا أكثر من كونه إداريا. بهذا نرى أن الانتماء للجماعة أصعب ولكنه أقوى، والانتماء للحزب أسهل ولكنه أضعف لأن الحزب يحقق للفرد وظيفة سياسية محدودة، أما الجماعة فتحقق للفرد وظيفة حياتية مستمرة و واسعة ( منهج حياة).

الأساس الثاني للمقارنة وهو الهدف المرحلي الأول لكل منهما، فالحزب هدفه الرئيسي الوصول للحكم، ويقاس مدى قوته بمدى قدرته على الوصول للحكم ( مؤسسة حكم ) وبدون ذلك الوصول قد يتعرض للجمود ويفقد التأييد فيترك الحياة السياسية، أما الجماعة السياسية فتمثل نموذجا حياتيا تمارسه أولاً وتدعو له ثانيا ثم تنادي المؤسسات المعنية بتحقيقه لأن التصور الذي تحمله الجماعة يكون تصورا عاما وشاملاً لا تستطيع أن تحققه إلا في بعض المجالات وتدعو الآخرين إلى تحقيقة في المجالات الأخرى

.الأساس الثالث للمقارنة هو مكان ممارسة التصور الذي يحمله كل منهما  فالجماعة وحدة حياتية أسياسية، فالحزب يمارس الحياة العملية والفعلية في الحكم وإن لم يصل إلى الحكم فإنه يظل يحاول لأن يصل لكي يطبق تصوره أما قبل الوصول فلا شيء سوى عرض تصورات وحملات دعائية. بينما الجماعة فتمارس الحياة الفعلية والعملية في كل لحظات وجودها. ومن خلال التكامل بين الفكر الذي تدعو له الجماعة وتطبيقها الفعلي له في ممارستها الحياتية تزيد ثقة الناس في الجماعة أو تقل.

من خلال العمل السياسي يتغير موقف الحزب السياسي بين الغلبة والتراجع، وبالتالي يختلف وزنه السياسي تبعا لذلك. أما الجماعة فيتحدد وزنها السياسي بحجمها ونفوذها، وعدد الأعضاء، ومكانتهم الاجتماعية، ومدى انتشار الجماعة، وتنوع الشرائح الاجتماعية التي تقبل على الانتماء لها، والقدرات المالية للجماعة. وكذلك يتحدد الوزن الاجتماعي السياسي للجماعة بمدى تأثير نشاطها في الحياة اليومية ومدى وجودها الواقعي الملحوظ في مختلف دروب الحياة. أما مدى قرب الجماعة من السلطة أو بعدها عنها فهو أمر لا يحدد مكانة الجماعة أو وزنها السياسي و الاجتماعي بل يحدد دورها السياسي المباشر فقط فعلى سبيل المثال قد ترى الجماعة أن دورها الأساسي هو التأثير في السياسة العامة الاجتماعية والشرعية لتكون من القوى السياسية التي تحدد توجهات الرأي العام (المعارضة والتوعية السياسية التي كانت تمارسها حركة 6 أبريل باعتبارها جماعة سياسية وليست حزبا - دعم جماعة لمرشح معين للرئاسة دون تقديم مرشح ينافس على الرئاسي). ويمكن أن تجد الجماعة أن دورها الأساسي هو في المشاركة الفاعلة والمؤثرة في التشريع وليس في ممارسة الحكم أوتشكيل حكومة ( أعضاء مجلس شعب فقط دون المشاركة في الحكومة).

الاجتماع : مفهوم جديد للسياسة

الصورة العامة للشارع العربي تحتوي على سلسلة من المشاهد التي تتراوح بين حالات الصمت والثورة، فعندما نفترض السلبية في السلوك السياسي العربي نفاجأ بمشاهد الاحتجاج والثورة والغضب (المقاومة ضد الاحتلال - عند الاستهانة بتعاليم الأديان والخروج عن أو على التعاليم الدينية) وعندما نحتاج إلى الفعل الثوري الحاشد نُحبَط برد فعل سلبي خامل.

تختلف قوة مشاركة الشعب ومدى تفاعله مع القضايا ومنطلق طرح القضايا، فإذا طرحت الأحزاب السياسية قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماماً شعبياً وتبقى حبيسة النخب. وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم و واجبات الزوجة والزوج، ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها، وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للعفة والاحتشام سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع. فالسياسة في حد ذاتها ليست هي المجال الذي يجذب رجل الشارع للمشاركة - وإن كانت بالطبع مجالا يثير الاهتمام والمتابعة -. إذا صحّ هذا التصور فهو يصل بنا إلى تفوّق الاجتماع - في الأهمية - على السياسة في الثقافة العربية.

يمكننا إذن أن نتصور وجود مجال اجتماعي وآخر سياسي، والمجال الاجتماعي ليس تابعا للسياسي وهو فرق نظنه مهما بين الثقافة الغربية والثقافة العربية. وبسبب أهمية المجال الاجتماعي واستقلاله النسبي عن المجال السياسي أصبح هذا المجال هو المحل الأول للفعل الإيجابي في الشارع العربي. كذلك فإن المجال الاجتماعي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمجال الديني، بل إن الدين هو المسيطر الحقيقي على المجال الاجتماعي مما يجعل سيطرة أي مجال آخر ليس فقط غير مقبولة، بل سيكون اعتداء على هيمنة الدين على الحياة الاجتماعية للأمة.

عملية التحوّل

جماعة الإخوان المسلمين تمثل جماعة سياسية، وجماعة اجتماعية دينية في آن واحد. ولهذا أسبابه ومسوغاته المعورفة من الجماعة وعنها. والمسوغ النظري المعلن يتكلم عن شمولية الإسلام. وهي مسألة يتفق عليها الفقهاء. ونظرة الجماعة تؤكد أن شمولية الإسلام تدعو لشمولية الجماعة. والحقيقة أن شمولية الجماعة كانت ضرورة في مرحلة التأسيس وهي ضرورة تاريخية، ولكن التنوع الوظيفي سيكون ضرورة مرحلة النهوض، وسيكون ضرورة تاريخية أيضا. لهذا نرى أن المرحلة القادمة تحتاج للجماعات النوعية، التي يكون كل منها قادرا على تقديم رؤية في مجاله، وقادر على العمل المباشر لتغيير واقع بناء على هذه الرؤية وبهذا يمكن أن نرى الجماعات الإسلامية في طور جديد تتوزع فيها على جماعات سياسية وأخرى اجتماعية ودينية، وتبدأ مرحلة النهوض، مرحلة ما بعد التأسيس أي مرحلة التشييد والعمران.

في الواقع الراهن محك فعلي لمسألة العلاقة بين الوضعية الرسمية للأحزاب ودور الجماعات السياسية، يتمثل هذا المحك في قيام بعض الحركات الإسلامية في إنشاء أحزاب سياسية تعبر عنها وتنتمي لها. نحلص من هذا إلى أن تجارب الحركات الإسلامية لإنشاء أحزاب سياسية هي في واقع الأمر تجربة للجماعات الإسلامية للعمل في ظل القانون ( مسألة الرسمي والعرفي التي أثرناها في المقال السابق ) لأن الجماعات يصعب عليها أن تكون حزبا بالمعنى الإدراي المؤسسي مما ينتج عنه جماعة سياسية تعمل تحت لافتة حزب!

ولكن التوسع بهذا الشكل ومع قَصْر القانون الحالي للأحزاب ( ربما يتم تعديله من قِـبَل لجنة تعديل الستور ) مجال عملها في العمل السياسي المحض، سوف يؤدي في جانب منه إلى التوسع من قبل الجماعة في المتاح من نشاط الحزب، كما سيؤدي إلى اعتماد الحركة على نشاطها الاجتماعي خارج الحزب.

والتحول الذي يواجه الحركة الإسلامية يتمثل في مسألة التحول إلى جماعات نوعية لكل منها مجال للعمل، وما نتصوره أن متطلبات المرحلة الراهنة تحتاج إلى تحول الجماعة الإسلامية ( التي تتبنّى الفكر الشامل للإسلام ) إلى جماعة سياسية، وأخرى اجتماعية دينية، وثالثة اقتصادية وهو ما يعني تحول الجماعة إلى تيار يضم الكثير من الجماعات، وتكون بين الجماعات علاقات اجتماعية وتنسيقية وتضامنية، والأهم يكون بينها وحدة الهدف والرسالة المشتركة مما يجعل من أعمالها على أرض الواقع تيارا من الأفعال التي تشكل معا خطوات متكاملة نحو هدف محدد.

ربما يكون ما نطرحه من تصور صعب على نفوس آمنت بشمولية التنظيم (لا نختلف على شمولية الفكرة!) دهراً من الزمن. صعوبة لا تقل عن صعوبة تطبيقه، تطبيقا ربما تضطر الجماعة له مستقبلاً رغما عنها إن لم تجتهد الآن في البحث في المسألة، وإلا فالزمن سيتكفل بالأمر وربما تكون التجارب الحزبية للجماعات لها شأن كبير في تغيير كثير من القناعات، فترى الجماعة بعدها أن إحكام السيطرة على الشمولية من خلال التنظيم أمرا مجهدا حقاً يستنزف الطاقات ويشتت الجهود، ربما لا تستطيع أن تحافظ عليه مستقبلاً مع توسع العمل وكثرة مساراته، مسارات ربما يكون لها قدم في هيكل الدولة (البرلمان – الحكومة – الرئاسة). إنه اجتهاد وربما كلمة حق، وصرخة في واد، لإن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد !

 وللحديث بقية

الإسلاميون ٢ - تربية الانفتاح



تحدثنا في المقال السابق والذي كان بعنوان الإسلاميون ١ - نقاط القوة ورصيد النفوس عن نقاط قوة الإسلاميين ورصيدهم في الشارعين الاجتماعي والسياسي، الرصيد الذي يؤهلهم للعب دور هام في تشكيل مستقبل العالم الإسلامي بعد ربيع الثورات العربية، وفي هذا المقال نرصد ملمح آخر من ملامح القوة، ربما يكون ملمحا لا يحظى باهتمام الكثير من أصحاب الفكر والتنظير بل ربما عدّه البعض منهم سببا في تأخر الكثير من الحركات الإسلامية وضياع كثير من الفرص الذهبية من بين أيديهم، ولكنها الحقيقة التي تربينا عليها أن النفوس لا بد لها من تزكية فهي هائجة مائجة مضطربة كاضطراب أمواج هذا البحر وأمراض القلوب لا ترحم، فكيف تمرض نفوس مهمتها شفاء نفوس قوم آخرين، وكيف تقسو قلوب غايتها ترقيق قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، وكيف يظلم صدر مهمته أن يحمل نورا ويمشي به "في" الناس. جانب هام ورئيسي وثابت من الثوابت لدى الحركات الإسلامية التي تحرص على صناعة الرجال حرصاً لا يقل أهمية عن صناعة التغيير المجتمعي والسياسي. ولكن يبدو أنه مع تطور النظريات  والأظروحات السياسية سواء من الإسلاميين أو غيرهم وانتشار وسائل الاتصال الحديثة والانفتاح على الآخر انفتاحاً لا يقل خطورة عن الانعزال أصبح المهتمين بالمجال التربوي في حيرة من أمرهم تسحقهم الحداثة من جهة والتحيّر الفِكْري من جهة أخرى!

ملحوظة هامة: هذا المقال قد يبدو في ظاهره أنه غير ذو فائدة إلا لمن يعمل في إطار تنظيمي إسلامي حركي جماعي يهتم بالتربية كاهتمامه بالفكر والسياسة، إلا أنني أرى أنه هام وضروري ومفيد لكل مسلم حريص على تزكية نفسه بالتوازي مع تغيير المحيط، الحركة ليست حِكراً على أحد والدعوة ليست حِكرا على جماعة "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم" [آل عمران]. أيها المسلمون.. كل المسلمون!

تربية الانفتاح

إن الكثيرين من الذين يقودون عمليتي التأسيس والانفتاح لا يصلحون لأدوار التصعيد، ولكنهم عناصر جاهزة للتدريب على أداء هذا الدور، ولابد من تجديد تربيتهم، وإكسابهم العلوم التي تنقصهم، وتبديل السمت النفسي الذي اكتسبوه من طبائع أعمال المراحل الأولى إلى ما يلائم طبائع العمل السياسي العام.

لا شك أن التربية من أهم نقاط قوة وتماسك التيار الإسلامي وسبب هام للمحافظة على نقاء القلوب وصفاء السرائر وتزكية الأنفس، فالممارسة السياسية تنحت من القلوب نحتاً ولا مفر! إن نظرة التيار الإسلامي للكون توجب على الفرد أن يعمل لآخرته لا لإصلاح دنياه فحسب. بل نقول يصلح دنياه لأجل آخرته، من أجل هذا وأكثر وجبت التربية.

يا للعجب! مع أن الإسلاميين من أكثر الناس حرصاً على تزكية نفوسهم ولا زالوا حريصين على قراءة كتب علماء وأهل التربية كالإمام ابن القيم ليسيروا مع السالكين في مدارجهم في "مدارج السالكين"، والإمام أبو حامد الغزالي ليحيوا قلوبهم في "إحياء علوم الدين"، والشيخ سعيد حوى ليزكوا نفوسهم في "المستخلِص في تزكية الأنفس". أو من المعاصرين كالدكتور خالد أبو شادي والأستاذ فتحي يَكَن والدكتور مجدي الهلالي ومربّي الدعوة العراقي محمد أحمد الراشد. كل هذا وتجدهم أكثر الناس اتهاماً لأنفسهم بالتقصير في جنب الله، يتهمون نفوسهم بأنها مريضة وقلوبهم بأنها مُسْوَدّة فنقرأ في رسائل الإمام حسن البنا "نفسونا التي يجب أن تتغير" و "أينما وُجِد المؤمن الصحيح وُجِدَت معه أسباب النجاح جميعا" و " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم" و "نفوسكم هي الميدان الأول، إذا استطعتم عليها كنتم على غيرها أقدر". في حين نرى غيرهم ممن يعبد الله على حَرْف لا يضطرب قلبه ولا تدمع عينه خشية أن يُطْرَد فيهوي في نار جهنم سبعين خريفا ويظن نفسه بذلك محسنا ويحسبه هينا وهو عند الله عظيم. لله در القائل "إن الطريق إلى الله طويل، كلما ازددت قرباً ازددت بُعدا، وكلما ازددت بُعدا ازددت قرباً"!

من أهم آثار التربية ما سماه الراشد "الحماسة اللاهبة" حيث إن الفقهاء والمفكرين كثير عددهم، ولكن قضية الإسلام الحاضرة تريد أصحاب القلوب الملذوعة، الذين يتفاعلون مع الأحداث أولاً بأول، ولهم تعبّد في مراغمة الباطل ومعاندته ومحاربته، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات الملذوعة. وذلك يعطي لمنهج الدعوة سمتا خاصا في تجاوز مجرد الدراسات الفقهية و التوجيه الفكري القريب من طبيعة المنطق الجامد، إلى مخاطبات قلبيه، تسبقه وتقارنه وتتلوه، تغذي الأرواح وتنمي الأشواق وتحبب البذل وتدفع نحو التضحية والجهاد.

كان للضرورة أحكامها فأباحت المحظورات، فتنازل الإسلاميون عن كثير من وسائلهم التربوية جملة، أو أدوها على غير وجهها الأكمل لحفظ ماء الوجه وذلك أضعف الإيمان. ولا شك، كان لذلك أثره السلبي من اقتصار كثير من الوسائل على الجانب النظري و المدارسة دون الممارسة، ولا شك أن أمراض النفوس تظهر حين تظهر أثناء الحركة والممارسة العملية للمدارسة النظرية، إضافة إلى أن الحركة هي نتاج التربية السليمة . وإذا كنا قد تعلمنا أن "استغلال الموقف نصف التربية" فمن أين لنا بالمواقف دون حركة ! لذلك كان لزاما بعد تفريج الكرب وزوال الغمة أن نؤدي الوسائل التربوية بحقها فلا يقوم عليها إلا أهلها إعداداً وتنفيذاً و تقييما وإلا لما كنا شاكرين لنعم الله علينا " وقليل من عبادي الشكور ".

الأثر السلبي الآخر للتربية المنعزلة هو قلة أو انعدام الاحتكاك بالتيارات الفكرية الأخرى والاكتفاء بالسماع من ذوي التجارب الشخصية التي لا تعتبر سيفاً على رقاب أبناء الحركة ككل، بل هي تجارب شخصية تلعب فيها الظروف الشخصية عاملا هاما، فأصبحت ثقافة الغالبية العظمى من أبناء الحركة الإسلامية ثقافة سماع من أصحاب الممارسة مما أدى بالطبع إلى ضبابية في الرؤية نتج عنه سوء في الحكم، فشاعت لهجة الاستعلاء على الآخر بل أقول احتقار الآخر "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، "إن الله يأمر بالعدل".

-
إذا ذكرت التربية وفقه الدعوة ذكر أول ما يذكر الراشد . نقتبس من كتبه ما يلي.

- سياسة العبادة

إن الطالب لفقه الدعوة سرعان ما يدرك أن التخطيط الإسلامي له سمت خاص يختلف عن الأحزاب العلمانية، يتمثل في الاقتران الكامل بين التربية الإيمانية الأخلاقية والتوغل السياسي.

إن خطتنا ليست هي خطة سياسية مجردة، ولا يكفي فيها العطاء التربوي الذي تتيحه للداعية مواقفه السياسية، بل يجب أن تسبق التدخل السياسي مرحلة تأسيسية مخصصة للتربية والبناء التنظيمي، ثم تظل التربية من بعد وتستمر مواكبة للانفتاح العملي والصراع السياسي، ويكون عطاء المواقف ظهيرا لها ومؤكدا.

إن تاريخ الجماعة يشير إلى أن الجهود التربوية تضمن سلامة العمل وبعده عن الانحراف، وتساعد على انتفاء الفتن ومعالجة الفتور، فوق كونها من الإرشادات الشرعية، وأنها هي السنة العملية التي سار عليها النبي - صلى الله عليخ وسلم - في تكوين أصحابه وتأسيس دولة الإسلام.

وإنما نعنيها بشمولها هذه التربية، فكما أن الممارسة الجماعية والتدريبات العملية وانتصاب القدوات تعتبر جوانب مهمة فيها، فإن العيش في المساجد و تلاوة القرآن الكريم ومجالس دراسة الحديث النبوي الشريف ومطالعة كتب التذكير وسماع الوعظ والتلقين تعتبر جوانب أخرى تماثلها في الأهمية أيضا، أو تمهد لها وتعين على دوام تأثيرها.

هكذا هو الخط الوسط والمقدار الصحيح، وإنما يغفل عنه اثنان:

جافل من سذاجة دعاة يعزفون عن التدخل السياسي ويبالغون في التربية القاعدة الجامدة، فيخرج إلى تطرف ينكر معه أصل التربية كله، ويقذف لسانه في غمرة الحماسة ألفاظا غير موزونة.

وجافل من دعاة يستعجلون وضع أنفسهم في محيط السياسية، ويقربون من التهور، فيخرج إلى تطرف مقابل يتحول به إلى مجرد زاهد عابد.

والصواب ليس مع أحد هذين، بل هو كامن في الشمول والتدرج والاقتران الدائم خلال كل المسار بين التربية والتدخل السياسي.

- الداعية العصري

إن الحديث عن طبائع الذين ندعوهم يجرنا مرغمين إلى الحديث عن طبائع الدعاة وقول فقه الاصطفاء فيها.

وكأن أول ذلك أن نعترف بأن مستوى الكثير  من دعاة الإسلام ما زال متخلّفا عن المستوى اللائق للاشتغال بالسياسة، على عكس الكثير من الساسة الذين نخالفهم، فإنهم قد استطاعوا تدليس باطلهم، وتعميق تأثيراتهم بعديد من الميزات التي برعوا فيها من الثقافة العامة الواسعة، والمطالعات السياسية المكثفة، والدراسات الاقتصادية، والمقدرة على التعرف على الناس وجَوْبِ منتدياتهم، والإلمام بلغة أجنبية وتكميل اطلاعاتهم باستخدامها.

وقلّة منا هم أولئك الذين ارتفعت مستوياتهم ارتفاعا عاليا يؤهلهم للنجاح في أبواب الدعوة العامة، كتحرير الصحف السياسية، وأداء مهمة النيابة البرلمانية، والخطابة، ورئاسة الهيئات الإدارية للجمعيات والنقابات والنوادي، أو عضويتها، أو ما هو أبعد من ذلك من القيام بالوظائف الحكومية الكبيرة، إذ قلة أولئك الذين يصلحون كرجال دولة يتحملون مسؤولية وزارة أو سفارة وما وازى ذلك إذا أردنا تكوين جهاز كامل لحكم أو المشاركة فيها. إن إخلاصنا فريد النوع، وتواضعنا نادر المثال، وأخوتنا عزيزة، وعبادتنا جميلة، ولكن النجاح السياسي أصعب من أن ينال بمجرد ذلك.

صحيح أن أكثر الدعاة يحملون علما جيدا، لكنه العلم الإسلامي في معظمه، ونعما هو: رمز فخر وشرف، ودستور عمل، ودليل سير في دروب الحياة، ولكن تأثيره اليوم يظل محصورا ما لم تظاهره ثقافة عامة شاملة، وأساليب عصرية في تفهيمه باستعمال الدراسات المقارنة، ونقد الواقع الحاضر، واتباع أساليب البحث الحديثة.

وصحيح أيضاً أن فينا أهل نشاط واتصال بالناس، ولكن الكثير منا ينعزلون في مجالس خاصة، ولا يبعدون عن دائرة رواد المساجد، ويستأنسون بطول اللبث يوميا في مجالس العوام، ونعما لبرهان هي على تواضع الداعية، لولا ما فيها من تعويد على الكسل وفتور الذهن، وما سببه الإسراف في التلذذ بها من هجر مجتمعات المثقفين، في نواديهم ونقاباتهم وجمعياتهم وسهراتهم المنزلية ولا بد من إقامة توازن وت وزيع أوقاتنا على أنواع المجالس.

- بذاذة موهومة

وكذلك مظهر الداعية وملبسه، شريك في التأثير، وكثير من دعاة الإسلام يستهويهم أجر البذاذة الإيمانية التي يعتقدونها، فيخالفون عرف المثقفين في اللباس، ويهملون هندامهم، ويلبس لهم من تبرير مقنع، والناس اليوم يلزمها من رفق خطابنا لها ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - للوفود، فإنهم وإن كانوا اليوم مسلمين، إلا أن المعاني الإسلامية التي نتداولها معهم غريبة عليهم، وأوشك أن يصبح المعروف منكراً، ولا بد أن نتجمل للناس في حدود المباح بما لا يخرجنا عن سمت التواضع، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجمل للوفود، باللباس الحسن الأنيق، والنظافة المبالغ فيها، ومسّ الطِّيب، ليألفونه، من غير تقليد للمسرفين، ولا جنوح إلى التشبه بالمتبطرين المبذرين، فإن التوَسُّط ما زال هو الخير في كل الأمور، وربما كفته البدلة الواحدة لسنين.

إن البعض يري أن هذه الأمور من الصغائر التي لا تناسب التذكير القيادي ، وهي في عرف الأوساط السياسية والفكرية كبائر.

- هجرة الأحرار لا يعرقلها ناكص

وعلى كل، فإن التجربة التربوية لا ستبتعد أن تؤدي هذه المطالعات غير الإسلامية التي نحث عليها، و مجالس المثقفين، وهذا التجمل في المظهر، إلى تأثيرات سلبية عند بعض الدعاة، يحب معها الترف والقشور الدنيوية الزائفة ، أو يتكبر على فقراء الدعاة، الذين لا يدري ثقل ميزانهم إلا الله تعالى، أو على غير أصحاب الشهادات الذين ربما فاق علمهم علمه، أو يأخذ يتنطع في فكره و تحليلاته ، و يصير أشبه برائد صالونات سياسية متطلع للمناصب منه بداعية متجرد متواضع همام، إلا أن كثافة المواعظ الصريحة ، و ذكر الرقائق ، و الرقابة القيادية التي تشرف على تعادل الكلام و المنهاج والخطط، و التربية على ما يضاد هذه الأسواء : كل ذلك يجعل العاقبة أكثر سلامة، ومن سقط و لم تنفعه الرقابة و الرقائق : كان سقوطه عندنا مصداقا لاحتمالات تساقط متوقعة في هذا الطريق، كأنها سنة من سنن العمل الجماعي، وليس أنفع لنا آنذاك من رؤية التكذيب الواقعي الحتمي لتدليسات المجازات الحماسية التي توهم قليل التجربة بأن كل من سار على الدرب وصل، كأن ليس في الناس الأعرج، والمريض، والراهب، والشهواني، وفاتر الهمة.

- انتكاس الموازين لا يدوم

ومن أضر الأقيسة هنا : أن يقيس الداعية كلامنا هذا بما حوله من واقع الحزبيين والانقلابيين، فيجد ما أوجبنا غير واجب، إذ يرى نكرات الناس يحكمون، و كل جاهل ليس له عشر علم الداعية المسلم يتصدر، و كل مخالف لفطرة الجمال معني ومظهراً يقول ويتفلسف ويجول.

و ما هكذا تفهم الأمور، فإن الحقبة الأخيرة من التاريخ السياسي لبلادنا شاذة طائشة، و وجدت الطفولة الفكرية و السياسية لها من أكتاف الجمهور الساذج مصعد وصول، فصالت، و التطور الاجتماعي و المدني، و الهدوء التأملي الذي سيخلف هذا القلق: كفيلان بنمو اتجاهين هما في صالح الحركة الإسلامية حتما:

اتجاه ندم الناس على ما كان منهم من خذل لدعاة الإسلام و نصر للحزبيين الذين أذاقوهم مر المتاعب، و ربما مالوا لمحاولة وفاء و تعويض و إقبال على الإسلام.

واتجاه جاهلي آخر على النقيض يحاول تأصيل الفكر العلماني والنزعة الإلحادية، ولكن من خلال التربية والحوار والأساليب الحرة المشتقة من الديمقراطية الغربية لا من خلال الإرهاب، وهو اتجاه في صالح الحركة لإسلامية أيضاً، فإن الإسلام والجاهلية إذا تصارعا في جو من الحرية : كان الإسلام هو الغالب، لقوة الحجة، وموافقة الفطرة، وعند ذاك في تلك المصارعة الحرة، ستبدو أهمية هذه الجوانب في صياغة شخصية الداعية المسلم، والتي أوجبناها آنفا، من الثقافة العامة، وأسلوب البحث الحديث، وإحداث تماس بالمثقفين، والتجمل لهم كما كان الأنبياء عليهم السلام يتجملون.

ولعلنا لا نغالي إذا صرحنا بأن افتقاد عناصرنا لهذه الجوانب الثلاث كان من أسباب الانحجاب عن الناس، وأنها عزلة نحن اخترناها أكثر مما هي عزلة طوقتنا بها حكومات الكفر والأحزاب.

إن مقصدنا واضح، والمعني الذي نذهب إليه صحيح، مع ما عند بعض الدعاة من الاستعداد للانحراف به إلى تفسير دنيوي يبررون به حالهم.

نريد اختلاط الداعية بالمثقفين من الناس في مجالسهم وأنديتهم لكسبهم، ولا يصح أن يفترض أنه مثل بيضة وأنهم أحجار صلدة، يكسرونه ويهشمونه ويسلبونه إيمانه إذا اختلط بهم بل افتراض العكس أولى وأقرب للقياس، فإن المؤمن قوى الحجة، عزيز النفس، وهؤلاء يعيشون في فراغ روحي ليس غير الداعية يقدر على ملئه، وتضللهم شبهات، ليس غير الداعية يكشفها.

-
ختاما، على الإسلاميين أن يدركوا جيداً أن التربية لا تكفي بل هي الحافظة للمسار، المرققة للقلوب، المزكية للأنفس. فالتغيير الاجتماعي السياسي شأنه أعظم من أن يقوم به أصحاب النوايا الحسنة والقلوب السليمة لا غير  "إن إخلاصنا فريد النوع ، وتواضعنا نادر المثال، وأخوتنا عزيزة، وعبادتنا جميلة، ولكن النجاح السياسي أصعب من أن ينال بمجرد ذلك".


و للحديث بقية

Friday, June 15, 2012

الإسلاميون ١ - نقاط القوة ورصيد النفوس


بدايَة

تثير لفظة "الإسلاميون" حفيظة الكثير من المسلمين، بل حفيظة بعض الإسلاميين أنفسهم! لما لها من إيحاء بالتفرقة ووضع حد فاصل بين المسلمين وبين من يطلقون على أنفسهم إسلاميين. ولكن يبدو أيضا أن من أطلق ذلك اللفظ، لفظ الإسلاميون، أراد عن عمد وضع ذلك الحد الفاصل بينهما.

إذا أطلقنا لفظ الإسلاميين فإننا نعني به من يؤمنون بأن الإسلام يحوي بداخله نظاما سياسياً لإدراة شئون البلاد و حفظ مصالح العباد و يطلق عليه البعض مجازا "الإسلام السياسي" أي أن الإسلام دين ودولة، ويؤمنون كذلك أن هناك ما يسمى بالسياسة الشرعية التي كتب عنها الإمام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية".

فهموا الإسلام كما فهمه حسن البنا باعتباره أول الزعماء الإسلاميين وأشهرهم بلا منازع و مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أولى الجماعات الإسلامية الحديثة وأشهرها وأكثرها تأثيرا في الوعي الجمعي لكثير من الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، ماليء الدنيا وشاغل الناس، وباعتباره كذلك بالنسبة لخصوم الإسلاميين (ربما من "المسلمين" أنفسهم، لاحظ هنا عداء بعض المسلمين للإسلاميين!) واضع البذرة الأولى لكل شرور الإسلام السياسي، حسن البنا يؤكد هذه الرؤية الشاملة للإسلام، يظهر ذلك بوضوع في رسائله. إذن المشكلة تكمن في ماهية التعامل مع الإسلام نفسه هل هو دين ودولة، مصحف وسيف، أم هو علاقة بين العبد وربه لا تتجاوز المجال الخاص من حياة الأفراد وعليه أن يلتزم الصمت  حيال المجال العام (السياسة والاقتصاد أبرز تجليات المجال العام) في المجتمع (وإن كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رأى أن الأيديولوجيات الكبرى كالعلمانية مثلا، خدعتنا جميعا بوضعها وسائل التأثير والتربية ونقل القيم وأهمها الإعلام، في يد الدولة والنخب الحاكمة فتعدت على حياتنا الخاصة واخترقت كل بيت فلم تدع لنا مجالاً خاصا أو عاما بعد أن ادعت اكتفاءها بالمجال العام) إذن المسلم الذي يؤمن بالليبرالية أو العلمانية لا يندرج تحت الإسلاميين، وعلى الجانب الآخر لا يمكن للإسلاميين الحكم عليه بكلمة الكفر، فخروجا من المأزق ظهرت لفظة "الإسلاميين" وجدير بالذكر أن الإسلاميين وإن لم يحكموا عليه بكلمة الكفر فإنهم يتهمونه بنقص في الدين حيث إنه حصر الدين في الشعائر وجعل السيطرة الكاملة على الدولة والحكم والدساتير والقوانين والأنظمة الجنائية و المعاملات المالية و منظومات نقل القيم تحت رحمة أفكار ومناهج غربية وافدة لا تنتمي للموروث الحضاري للمنطقة العربية الإسلامية. إذن الإسلاميون ينكرون أن يكون هناك مسلم علماني أو مسلم ليبرالي، يرون أن " الإسلام دين شامل ينتظم شئون الحياة جميعاً، فهو دين ودولة أو مصحف وسيف " بهذا النص وضع حسن البنا البذرة الأولى للإسلام السياسي.  إذن كل إسلامي هو مسلم، وليس كل مسلم إسلامي.

-
ليس ثمة شك أن الإسلاميين هم أكثر من يمكنهم الاستفادة من ربيع الثورات العربية الذي لا يكاد ينتهي الفعل الثوري له في دولة حتى يشتغل غيظا وغضباً وصب جمراً وناراً على فرعون آخر في دولة أخرى، لكن قولنا بأنهم أكثر من يمكنهم الاستفادة لا يعني بالضرورة أنهم أكثر المستفيدين!

رصيدُ الإسلاميين ونِقاط القوة
للإسلاميين نقاط قوة تضاعف من رصيدهم لدى الجماهير في الشارعين الاجتماعي و السياسي

- تيار جماهيري حاشد

في حين تبدو الأحزاب العلمانية / الليبرالية وكأنها تفتقد التيار الاجتماعي القادر على حمل برامجها، وفين حين نلاحظ الافتراق بين القاعدة الاجتماعية وبرامج الأحزاب المعارضة الغير إسلامية نجد أن الإسلاميون تيار جماهيري شعبي مجتمعي ذو قدرة هائلة على الحشد ( الاستفتاء على التعديلات - جمعة الإرادة الشعبية ) سواء من الأنصار معتنقي الفكرة المشاركين في التنظيم أو من المؤدين للفكرة دون الالتزام التنظيمي. فبينما يصر العلماني / الليبرالي على الظهور في البرامج الحوارية لإقناع "البسطاء" من الشعب بـ "فِكره" يصر الإسلاميون على التواجد في الشارع الاجتماعي بأعمال مجتمعية خدمية. بالطبع لا يمكن الحكم على تلك الأعمال بأن الهدف الرئيسي منها هو الحصول على الصوت الانتخابي المؤيد كما يحلو للبعض اتهامهم بوضع السم في العسل وهو خوض في النوايا لا يقل سوءا عن الخوض في الأعراض، فأعمال الخير الخدمية هي أهداف إسلامية في حد ذاتها يستمد التيار الإسلامي شرعيتها من النصوص والتعاليم الدينية بعيداً عن الحسابات السياسية. لكن الحقيقة أيضاً أن من يخدم الناس هو الأقرب إليهم، ولا شك كذلك أن تلك الأعمال المجتمعية تولد احتكاكاً بين حاملي الفكر وطبقات المجتمع يولد بالضرورة حوارا وعلاقات إنسانية تصب لصالح الإسلاميين في المطاف الأخير. فالمجتمعات العربية الإسلامية تهتم بالقضايا الاجتماعية اهتماما كبيرا يفوق اهتمامها بالقضايا السياسية البحتة. فعندما نتحدث عن قضية تعليم المرأة من زاوية الحديث عن حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة فسنجد أن القضية لا تأخذ اهتماما شعبيا و تبقى حبيسة النخب. وعندما تثار مسألة موقف الدين من التعليم وواجبات الزوجة والزوج ودور الأم وعلاقة ذلك بتعليمها وخروج المرأة من المنزل في ضوء التقاليد الواجبة للعفة والاحتشام سنجد أننا بصدد قضية حيوية تشغل الشارع، ليس فقط الشارع السياسي بل إن صح التعبير الشارع الاجتماعي والديني.

- رصيد الفطرة والعادات والتقاليد

هناك شيئا مختلفا في الوضع الإسلامي، هناك ما يميز الشعوب الإسلامية وحاجاتها وأمانيها، هناك علاقة خاصة تربط بين المسلمين والإسلام والميراث الإسلامي التاريخي. فقد ظل الإسلام الناظم المرجعي لحياة المسلمين ورؤيتهم للعالم طوال قرون. ولم يتراجع هذا الموقع المرجعي بسبب صراع بين الأمة والسلطة الدينية كما تطورت التجربة المسيحية في أوروبا. الحقيقة أن إزاحة الإسلام عن موقعه لم تتم إلا بعنف حركة التحديث وسلطة الإدارات الإمبريالية، وجرت بدون لستشارة الناس، بل وبخلاف إرادتهم في معظم الأحوال. إن أي فكرة تعادي الدين أو تهمّشه ليس لها مستقبل في تلك المنطقة من العالم.

تلعب العادات والتقاليد ورصيد الفطرة في نفوس عامة الشعب دورا بالغ الأهمية حيث لا زالت النفوس تقدس الدين والشريعة الإسلامية. والانطباع الأول بأن العلماني/ الليبرالي ضد الدين أحد أسباب نفور الشعب من هذا التيار فأصبح من الطبيعي جداً أن يقول لك سائق التاكسي أو من يجاورك في المواصلات العامة أن الليبرالية شر محض لأنها ستؤول بنا إلى إباحة الشذوذ وزواج المحارم أو شرب الخمور في الشوارع وتحليل الربا! فالشخص "المتدين" أو "الشيخ" أو "الراجل بتاع ربنا" لا زالت له في النفوس مكانة ومحبة وقدر من الثقة والاطمئنان ترجح من كافة الإسلاميين كثيراً. 

- أصحاب مشروع

الإسلاميون أصحاب مشروع وإن كان كثير منهم حتى الآن لا يستطيع الخروج من فخ الكلام العام العائم إلى نقاط وخطوات وبرامج إصلاحية إجرائية محددة. لكنهم في النهاية أصحاب مشروع يدعون الناس إليه بإظهار محاسنه ورصد التجربة التاريخية يعضد قولهم. بخلاف التيار العلماني / الليبرالي الذي يبدأ خطابه بخطوات سلبية أكثر منها إيجابية كأن يبدأ كلامه بأنه يطالب بفصل الدين عن الدولة، كلمة "فصل" توحي بأن هناك حالة من التلاحم ومن ثم هو يطالب بالفصل وهو قول سلبي لا شك. أو يحذر في بداية الحديث من الدولة الدينية وهو مستغرب أن يبدأ حديثة بـ " فصل " دين عن دولة و" تحذير " من تيار أو فكرة!

- يتكلمون لغة يفهمها الناس

تستخدم القوى الإسلامية لغة يفهمها الناس، يبسطون خطابهم لأبسط أشكاله حتى يستوعبه المواطن (مع ملاحظة أن هذا التبسيط يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى اختزال مخل للأفكار خصوصاً إذا كان الحديث عن الأيدلوجيات الأخرى) بخلاف التيار العلماني/ الليبرالي الذي يجزم بـ "جهل" الشعب وضعف ثقافته و وعيه السياسي فيرى أنه يجب تثقيف الشعب أولاً حتى يفهم لغة النخب، وهو قول و إن كان به كثير من الصحة فهو غير منطقي وغير فعال وغير واقعي ولن يؤدي إلى نتيجة. هذه النقطة وسابقتها تؤديان إلى انعزال فكري بين المجتمع وبين التيار العلماني/ الليبرالي.

- وهم أيدلوجيا الإشباع الروحي 

لا زال بإمكان الدين، أي دين، توفير الإشباع الروحي لبني الإنسان. الإشباع الروحي الذي عجزت الأفكار والشرائع والأيدلوجيات الوضعية عن توفير أبسط أشكاله لبني الإنسان. لا زالت الأيدلوجيات تتتعامل مع الإنسان ببعده المادي، الإنسان ذو البعد الواحد.

خلق الله الإنسان من طين (مادة) ونفخ فيه من روحه (روح) فكان السر الإلهي، والجانب المادي ضروري للكائنات الحية جميعها، الإنسان والحيوان والنبات، يوفره الكائن لنفسه بالأكل والشرب واللبس والتملك والتكاثر، وهو ما وفرته الأيدلوجيات الغير متجاوزة بصورة مذهلة في البداية حتى بدا للسُذّج أنها حملت إليهم الخلاص وحلت لغز الإنسان والحياة، أغرقت في قيم المنفعة واللذة الذي ربما أدى الافتتان بهما في بداية الأمر - خاصة بعد القضاء على وطأة الكنيسة - إلى  شعور معادي للدين، كل الدين، بين كل تلك السعادة اللحظية الكاذبة كان هناك شبح يتسلل في الخفاء رويدا رويدا، شبح الخواء الروحي. بل ريما أصبح التمادي في اللذة حينها (الجنس والاستهلاك) محاولة اليائس لاستجلاب الإشباع الروحي.

من بين كل هذا الوحل والركام أطل الإسلام بقدرة هائلة على الإشباع الروحي تقضي على شعور الإنسان المتزايد بالاغتراب في عالم تسيطر عليه المنفعة واللذة المحرمة والقيم المادية. قدرة هائلة لا تدعو إلى العزلة ولا تناقض السعي والبذل للإعمار بل تدعو إليه وتجازي عليه إحسانا.

وللحديث بقية