Thursday, December 9, 2010

هذا السيد .. هذا الدين


نقاط هامة و مقدمة لا مفر منهما

- اتبع المفكرون الإسلاميون في نقد الحضارة الغربية أساليب عدّة نذكر منها هنا أساليب ثلاثة . الأسلوب الأول يمثله الدكتور عبد الوهاب المسيري متمثلاُ في نقد الحضارة الغربية من داخلها بعيداً عن النصوص الإسلامية أو الرؤية الدينية عموماً حيث إنها لا تقع ضمن نقاط الاتفاق و بالتالي لا يمكن بناء الأساس النقدي عليها اللهم إلا تنويهات بسيطة داخل سياق الحديث . أبدع المسيري فيه باقتدار و أثبت عبقريته حيث إنه أثبت ما ستؤول إليه العلمانية الغربية بمنطق عقلي بحت – مرجعيتهم الأولى و الأخيرة – و بيّن عتمة النهاية و سودادوية الخاتمة بل الأدهى من ذل أنه أثبت تضارب بعض نظرياتهم من داخلها فما أثبته – الفيسلوسف العلماني - في البداية ينكره في النهاية و ما أقره في النهاية كان قد نقضه في البداية ! يظهر ذلك جلياً في كتاباته خاصة ( العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة - النظرية ) . الاتجاه الثاني مثّله على عزّت بيجوفيتش و هو طرح ظواهر كونية أو نفسية تعجز النظريات الغربية عن تفسيرها اعتماداً على المرجعية التي تتبناها تلك النظريات الغربية ، كعجز نظرية داروين في التطوّر عن تفسير الجانب النفسي الروحي للإنسان حيث إنه – الجانب الروحي النفسي - لم يتطوّر من الحيوان بل ( خُلِق ) ابتداء في الإنسان ، يتضح ذلك في أشهر كتبه ( الإسلام بين الشرق و الغرب ) . الأسلوب الثالث هو بيان سذاجة الفلسفة الغربية التي تدعو للضحك و السخرية في أغلب الأحيان و الحزن على ما آلوا إيه ، و عدم الخوض كثيراً فيها حيث أنهم أعملوا عقلهم في غير محل الإعمال ، ثم التعمّق في المنهج الإسلامي و الحديث عنه باستفاضة مع بيان أن كثير من القيم الغربية الحسنة مستمدة من الإسلام حينما مُكّن له في الأرض حيث كانت أورويا و المجتمع الغربي لا يزال يتخبط في تيه الظلمات ، و هو ما أبدع فيه الشهيد سيد قطب .

- هناك علاقة عاطفية تربطني بالشهيد سيد قطب ، ليس تعاطفاً معه لأنه ظُلِم حتى شُنِق - كما يتعاطف معه الكثيرين و إن كانوا ذوي ميول غير إسلامية أساساً - ، و ليس لتلك اللغة الأدبية الرائعة التي يكتب بها - و التي أعجبت الكثيرين و إن كانوا من كارهي فكرته ابتداءا - . إنها علاقة حب لا أجد لها مبرراً غير أني أحبه في الله . أحب صورته .. أحب كلامه .. أقرأ له من آن إلى آن فأشعر بسعادة و وضوح للمسار . سيد قطب ، رغم جسده النحيل إلا أنه يحمل قلبا عجيبأ . يميزه أنه جمع بين الفكر و الأدب فعبّر عن أعقد القضايا كالحاكمية و الجهاد بأسلوب أدبي قوي أكثر من رائع .

- عند القراءة للشهيد سيد قطب ينبغي أن تنتبه لنقطة ، فإذا كنت ممن يحبون أن يستفتح الكاتب كلامه بقوله " هذا رأيي الشخصي و هو ما توصلت إيه حتى الآن و ربما يتبين لي غيره و ربما تجدني أنقض ما قلت إذا تبيّن لي ما هو أحق منه " فسيد قطب ليس من ذلك الصنف .. سيد قطب واضح كالشمس ، حاد كالسيف في معظم قضاياه إن لم جميعها على الإطلاق ، لا تنازل ، لا انهزام ، لا تقهقر . هذا هو المنهج و هذا هو الطريق و هذا هو الدين و هذه هي المعالم . من قَبِله فمرحباً به و من لم يقبله فأنا أخلفه الرأي . ناهيك هن لغته الأدبية القوية الشديدة . فإذا كان المسيري قضى أغلب الوقت في إثبات سوء المادية الغربية و لم يوضح لنا تماماً ما نفعله أو نتبعه فإن سيد قطب فعل العكس تماماً لم يرهق نفسه في نقد الحضارة و الفلسفة الغربية بل تجاوزها سريعاً بعد ذكر سريع للمساويء ثم وصفهما بالسخف و توجه مباشرة للمنهج الإسلامي . سيد قطب يمكنك أن تصفه فتقول " قُضِيَ الأمْر " .

- " الحكم على الشيء فرع عن تصوّره " قاعدة هامة عامة يجب اتباعها عند الحكم على فكرة أو شخص ، بل هي أصعب و أعقد عند الحكم على شخص ، فهي تتطلب الإلمام ليس فقط بمعظم ما كتب بل بتجاربه الشخصية في الحياة سواء اعتناقه لأفكار سابقة تنازل عنها فيما بعد ، أو تجارب قاسية في حياته ( اعتقال – نفي - ... ) ، كما تتطلب نبذة سريعة عن أقوال الناس حوله ( قبول عام – رفض تام – قول أو رفض من جهات بعينها معلومة الاتجاه .... ) . فقبل الحكم على الدكتور مصطفى محمود يجب أن ندرك أنه كنا ملحداً و رأى الانغماس في الملذات حد التمرغ في الوحل . و ينبغي ان ندرك أن سيد قطب عاش في السجن فترات طويلة و رأى ما لم نره . و ينبغي أن ندرك أن المسيري رأة نهاية الحضارة المادية بينما ظل البعض منبهراً بثقافة الاستهلاك و الإعلانات التلفزيونية و البهرج الكاذب . إذا أرهقنا عقولنا في التصوّر سنفسّر الكثير من الظوهار و نستطيع أن نفسّر حرقة و شدة لهجة فلان عند حديثه عن القضية الفلسطينية بعد ان نعلم ( نتصوّر ) أن جميع أسرته ماتت تحت الركام إثر قصف صاروخي إسرائيلي ، بينما نفسّر برود فلان الآخر عند الحديث عن نفس القضية فهو لم ير و لم يسمع و لم يجرّب إذ أنه جالس في المكيّف صباح مساء . و بالطبع كلما زاد تصورك إحاطة زاد حكمك دقة .

-
فركن الإسلام الأول : أن نشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله .. و شهادة أن لا إله إلا الله ، معناها القريب : إفراد الله – سبحانه – بالألوهية ، و عدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائصها .. و أولى خصائص الألوهية : حق الحاكمية المطلقة ، الذي ينشأ عن حق التشريع للعباد ، و حق وضع المناهج لحياتهم ، و حق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة . فشهادة " أن لا إله إلا الله " لا تقوم و لا تتحقق إلا بالاعتراف بأن لله وحده حق وضع المنهج الذي تجري عليه الحياة البشرية ، و إلا بمحاولة تحقيق ذلك المنهج في حياة البشر ، دون سواه .. و كل من ادعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس ، فقد ادعى حق الألوهية عليهم ، بادعائه أكبر خصائص الألوهية ، و كل من أقره منهم على هذا الادعاء فقد اتخذه إلها من دون الله ،بالاعتراف له بأكبر خصائص الألوهية .. و شهادة أن محمدا رسول الله ، معناها القريب : التصديق بأن هذا المنهج الذي بلغه لنا من الله ، هو حقا منهج الله للحياة البشرية ، و هو وحده المنهج الذي نحن ملزمون بتحقيقه في حياتنا و في حياة البشر جميعاً .

تلك الكلمات الموجزات المزلزلات المقتبسات من كتاب " هذا الدين " يمكننا القول بأنها حجر الزاوية لفكر الشهيد سيد قطب .

فكر الشهيد تجده ملخصا متبلورا في كتابه ( معالم في الطريق ) و ربما يكون هو آخر كتابته ، لكني بعد قراءة كتابه ( هذا الدين ) وجدت فيه خلاصة أخرى تستحق الذكر ، الكتاب يقع في مائة صفحة من العيار المتوسط أو ربما أقل . كلمات مزلزلات كالمدفعية الثقيلة تضرب العقول و القلوب .

عرض سريع موجز لأهم أفكار الكتاب

الإسلام منهج للبشر ، فهم المأمورون بالسعي و الاجتهاد لتطبيقه في واقعهم . و الذي يظن أنه طالما أنه منزل من عند الله فلابد و أن يعمل في حياتنا كمفعول السحر ، أو بكبسة زر هو إنسان لم يدرك و لم يفهم طبيعة هذا الدين . فهو منهج للبشر مرتبط بمجهودهم البشري في حدود طاقتهم البشرية ، و حتمية انتصار الدين ليس معناها حتمية انتصار كل من يؤمن بهذا الدين و يعتقد به بين جنباته و لكنها حتمية انتصار للدين و لمن يبذل وسعه لتحقيق هذا الدين في شخصه و مجتمعه بل في الكون كله .. و لا عيب في الهزيمة إن خالفت تلك النفوس بعض الأوامر فهذا لا يعيب المنهج و لا يحكم بنقصانه في شيء بل هو درس يجب أن نتعلّمه كما تعلمه الصحابة يوم أحد حينما خالفوا الأمر فتعلموا أن النصر و الهزيمة مرتبطان بمدى تحققنا و تخلقنا بالمنهج لا بالمنهج نفسه لكنهم لم يتعلموه بالكلام و العتاب بل تعلموه بالدماء و الآلام ، فتلك الدروس لا تُنسى .

ثم يشرع في وصف لماذا نحن ملزمون بتطبيق هذ المنهج الرباني . فيقول بداية نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج حتى نحقق لأنفسنا صفة الإسلام الذي ندّعيه ، وهو ما ذكرناه أعلاه . و نحن ملزمون كذلك بتحقيقه لأنه المنهج الوحيد الذي يحقق للإنسان إنسانيته ، فالبشر كلهم أمام الله سواسية لأنهم يعبدون إلها واحداً أما في مناهج البشر فهم يعبدون بعضهم بعضاً كما قال تعالى " اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله و المسبح ابن مريم " لم يسجدوا لهم و لكنهم اتبعوهم في تحريمهم الحلال و تحليلهم الحرام ، فتلك عبادتهم إياهم ، فأنت عبد لله و تلك كامل الحرية أمام البشر ، ففي المناهج البشرية – الرومان مثلاً – نجد العبد و السيد و السخرة و الإذلال ، بل حلبات المصارعة التي ساوت بين البشر و الأسود و من ينتصر منهم فله حق البقاء ! أما الإسلام فأنت لست عبداً إلا لله و لا فضل لأحد عليك إلا بالتقوى و العجيب أن تلك التقوى لا يستطيع البشر قياسها و بالتالي فأنت لا تعلم من خير ممن ؟ فليس لبشر على بشر فضل إلا أمام الله " و لقد كرّمنا بني آدم " .. كل بني آدم ! و نحن ملزمون بتطبيق هذا الدين لأن واضعه يدرك الغاية الكبرى من الكون على عكس البشر فهم محدودوا التجربة حتى و إن اجتمعت الأجيال سيظل الجهل حليفهم ،و العقل البشري قاصر عن إدراك الحكمة النهائية " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " . و نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج لأنه المنهج الوحيد الخالي من الأهواء و الأغراض و المطامع الشخصية ، فالله - سبحانه و تعالى - لن يحابي بشراً على بشر أما المناهج البشرية فقلما ما تخلو من المطامع و الأهواء الشخصية لأن البشر ضعاف النفوس فضلاً عن أن بعضهم نفوسهم خبيثة فيستخدمون سلطتهم التشريعية لخدمة شخصه أو أسرته أو قبيلته أو جنسه أو ... إلخ " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " . و نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج لأن واضعه هو واضع نواميس الكون و بالتالي تجد انسياقاً روحياً بينك و بين الكون من حولك على عكس المناهج الوضعية التي أشقت البشرية بعد أن خالفت سنن الكون فانسحقت النفوس و تمزقت ، و رأينا الأمراض النفسية و القلق و الاضطراب يهتك بنفوس المجتمعات الغربية مع قمة التقدم التكنولوجي المادي و مستوبات الدخل الخرافية لأن سنن الله غلابة ، و الدكتور عبد الوهاب المسيري هو خير من يظهر جوانب الضعف بل و الدمار المتمثلة في المناهج الغربية من علمانية و غيرها و لكنه حين يقعل ذلك يفعله من منطلق ليس إسلامي بحت بل من منطلق الإنسان كمخلوق مُكرّم من قبل الخالق . لذلك كله نحن ملزمون بتطبيق هذا المنهج .

و الإسلام اليوم أمامه فرصة عظيمة للسيادة بعد أن عجزت المناهج الغربية و باتت تتخبّط يمنة و يسرة تبدي صموداً كاذباً . فالإسلام يعضده رصيد الفطرة .. رصيده في نفوس البشر جميعاً – مسلمهم و كافرهم – فالضمير لا يموت .. قد يخبو و لكنه لا يموت و تلك من رحمة الله . و كما يعضده رصيد الفطرة يعضده كذلك أثره الذي تركه في نفوس البشر – مسلمهم و كافرهم – يوم أن ساد و حقق حضارة لم تتكرر . كذلك تعضده تلك الإشراقة اللامعة يوم أن ساد فكان المسلمون هم النواة الأولى للعلوم التي اعتبرتها الكنيسة في الماضي إلحاداً و هرطقة و تم القتل و التعذيب و ظهر المستنيرين الذين كرسوا علمهم للانتقام من الكنيسة . و كما يعضده رصيد الفطرة و رصيد التجربة يعضده كذلك رصيد القيمي الذي أرساه في المجتمع يوم أن ساد بعد أن كانت مستنكرة في الجاهلية كحقوق الإنسان ( موقف ابن القبطي مع ابن عمرو بن العاص ) . و من القيم الإنسانية واحدة فبعد عصبيات القبيلة و العشيرة و البيت جاء الإسلام ليجمع القبائل و الشعوب متعارفين لا متناحرين " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا " . و من القيم اجتماع البشر على رابطة العقيدة بعد أن كانوا يتجمعوا على رايطة الجنس و العرف و اللون و اللغة . فجمعهم على أسمى ما في الإنسان .. ما يعتقده و يؤمن به .

إن الإسلام اليوم أمامه فرصة عظيمة ربما تفوق فرصته يوم الجاهلية الأولى يعضده رصيد الفطرة و رصيد التجربة و رصيد القيم التي أقرها و ظلت مستمرة بعد أن تزحزح الإسلام – أو تمت زحزحته - عن الصدارة و حلت محله المادية الغربية المهلكة .

و لكن حتى لا يغتر المسلمون ، فإن كانت الجاهلية التي لاقاها الإسلام يوم أن نزل على محمد جاهلية هوى و عصبيات قبلية و سذاجة و جهل و فتوة، فإن الجاهلية التي يلقاها اليوم هي جاهلية علم و جدال و مراء و تعقيد و استهتار . و لكن رجاؤنا أن الفطرة التي أشقاها الضرب في التيه قد بدأ يبدو عليها التعب و الحنين إلى الله من جديد .

" و كان حقاً علينا نصر المؤمنين " .. قضي الأمر

1 comment: