Thursday, May 3, 2012

مقدمة كتاب مسافر في قطار الدعوة - محمد أحمد الراشد



من مقدمة كتاب "مسافر في قطار الدعوة" بتصرّف بسيط. الكتاب للداعية المربي عادل الشّويّخ، والمقدمة كتبها أستاذه الداعية المربي محمد أحمد الراشد ينعيه فيها ويتذكره، ما أقساها وما أجملها، رحم الله عادل الشويخ، ورحمنا الله جميعا!

قرأت للأستاذ كامل الشريف، لما أرخ البطولات الإسلامية في مقاومة الإحتلال البريطاني لقناة السويس، أنه كان يعرف بالفراسة علامة الفدائي الذي تنتظره الشهادة قريبا، فيميزه من خلال استبشار يطغي على محياه، و عبر حركة دائبة و نشاط غير عادي يسبق استشهاده.

و هكذا نهاية أخي العزيز الحبيب، و عضدي، و سندي، و صاحبي في دربي، و قريني و تلميذي الدكتور عادل عبدالله الليلي الشويخ البصري رحمه الله رحمة واسعة، و جزاه خيرا، و رفع مقامه في جنان الخلد مع علماء الأمة و الشهداء الصالحين.

كان في ذروة حركته طيلة الموسم الذي سبق رحيله، فقدم له في ماليزيا، و أخرى في مورتاينا، و طاف بأمريكا، و عرج على أوكرانيا ينشر فقه الدعوة، و يلقي الدروس، و يحاور المربين و رواد العمل الإسلامي، حتى حمله شوقه على أن يقصد كردستان العراق مبشرا بالأخوة الإيمانية التي تجمع القوميات، و مشجعا للتيار الإسلامي الكردي الصاعد المتنامي، حتى إذا بلغ ذروة البشارة و النذارة و حلقت أرواح من معه عاليا: نزل فجأة إلى قبر هادئ على سفح تل مهيب في ظاهر مدينة السليمانية بعد حادث سيارة، أكرم الله مثواه.

لكني لم أميز اقتراب موته كما ميز الشريف موت أصحابه، و لم ألتفت إلى تلك العلامات الخيرية الكثيرة التي سبقت إنتقاله إلى جوار الله تعالى، فهزني الحادث و أذهلني، و نفضتني صدمة عنيفة لم أرزح تحت تأثيرها، لا أدري ما أقول، و لا ما أفعل، و غير مهتد لطريق تعويض مكانة أبي عبدالله التربوية، و كل الذي أملكه من تسلية: ثقة بالله تعالى، و أمل بأن يقيم منا سيدا كلما مات سيد.

و إن كان لي فخر، ففخري أن أبا عبدالله كان أكبر تلامذتي، و أمين سري، و النجى الذي أبثه همومي، و المستشار الذي طالما حاورته ففتح لي من نوافذ التفاؤل ما شاء الله ، و أغلق أخرى تطل على أودية التشاؤم، و أنا أسن منه بثمان سنوات، و ترقى علاقتي به إلى ثلاثين سنة، يوم جاء إلى بغداد من البصرة طالبا جامعيا، فكان أوعى من يستوعب دروسي في تأصيل فقه الدعوة، و اكتشفت فيه قرينا مكافئا لا تلميذا، و منذ ذلك اليوم لبث معي على يميني كأرسخ ما يكون الثقة نطور معا مدرسة جديدة و طريقة في إيضاح فقه الدعوة من خلال جرد كتب الفقهاء الأولين و استخراج ما تناثر من أقوالهم مما فيه كشف لمعنى تربوي أو سياسي أو تنظيمي أو تخطيطي، و خلط ذلك بأقوال المعاصرين من الدعاة و المفكرين، و بشواهد تاريخية و بأشعار الحكماء، مع مجازات رمزية و لغة إيمانية، و استدلالات من العلوم التطبيقية، و الخروج من كل ذلك بمزيج متجانس من الكلام الشارح لما ينبغي أن تكون عليه المواقف الدعوية، و قد تلقى الدعاة - بحمد الله- هذه الطريقة بقبول حسن... فكان (أستاذا ونصفا) كما يقال، فقد فاقني وذهب إلى أبعد مني ...


و قد استبد به الزهد في الكلام و إلقاء الدروس قبل سنوات، و اشتكى من سلبية بعض السامعين وعدم مجاراتهم له من خلال الأسئلة الواعية التي تحرك المدرس عادة لمزيد من العطاء، حتى ذكر لي أنه ينوي التوقف عن الكتابة و الكلام احتجاجا، فوجد عندي من هذا المعنى ما هو أكثر، و استولى علينا التبرم، و تعاهدنا على السكوت،

فساق الله إلينا شابا يخرجنا من الخطأ، إذ كنت أجلس مع عادل في مطار استانبول ننتظر الطائرة قافلين من دورة لم نصادف فيها من أسئلة الدعاة ما يشجع، و إذ نحن نتبارى في التلفظ بمرادفات اليأس، إذ بشاب يقبل علينا ثانيا ركبتيه، يسأل:

قال لي: أأنت محمد أحمد الراشد؟
قلت: نعم، هل التقينا سابقا؟
قال: لا، عرفتك من خلال رؤية فيديو كلمتك في مؤتمر هيوستن بأمريكا.
قلت: و من تكون؟
قال: اسمى خالد الموساوى، و أنا جزائري من أهل واحة وادي سوف على بعد ألف كيلو متر عن العاصمة جنوبا على مشارف الصحراء الأفريقية الكبرى قرب أقصى الحدود التونسية، و نحن هناك نقرأ لك و نسمع أشرطتك، و نرى بعض دروسك من خلال الفيديو، و أنا ذاهب إلى الجهاد في أفغانستان.
فرحبنا به، و أبدى سرورة لهذا اللقاء على غير موعد، و سألني عن أمور، و سألته، ثم تنهد مستدركاً.
قال: لكن مازال نصف حلمي لم يتحقق، لم أتعرف بعد إلى عادل.
قلت: فكيف بك إذا أنزلتك معي إلى دبي لأعرفك به.
قال: إذا يكون يوم عيدي، فنحن نسمع دروسه و لم نر صورته عبر الفيديو.

و هنا تدخل عادل رحمه الله، فسأله عما سمعه من أشرطة دروسه دون أن يعرفه بنفسه، فعدد له عناوين دروس عديدة.
فسأله عادل ممتحنا: الدرس الفلاني ماذا يقول فيه؟
قال: كذا، و كذا، و أتى بمختصر معانيه على وجهها.
ثم امتحنه مرارا، يسأله عن دروس أخرى، و الفتى يأتي بالمعاني على وجهها بإتقان أدهشنا.
فقلت له بعد أن ازددت فراسة في صدق توجهه: إذن هذا هو عادل أمامك، هو الذي يمتحنك.
فطار الفتى من الفرح و أذهلته المفاجأة.
قال: كلنا في وادي سوف على هذه الشاكلة، نقرأ و نحفظ و نعيد السماع.
ثم أخرج كتاب الموافقات للشاطبي من خرجه، و قال لعادل: سمعتك في شريط تثني على الكتاب و توجب على الدعاة أن يطالعوه، فاقتنيته ليكون صاحبي في الجهاد.


هذه الحادثة هزت عادلاً و جعلته يوقن بوجود مبلغين أوعى من سامعين، و مال إلى التوبة من اليأس و من الزهد من الكلام، و طفق يقول بعدها: نتكلم لأهل الواحات و الغابات إن خذلنا أهل الحواضر. فكان من ثم إكثاره في السنوات الأخيرة رحمه الله.

لقد كنت و إياه كأننا فريق عمل مشترك، ننضج أفكارنا معا، نرحل معا، و نتكلم معا، و نكتب معا، لذلك شعرت أن نصفي قد مات لما بلغني نعيه، و ما أظن أن أحداً من أصحابه حزن لموته كحزني، و قد تركني أمام تكاليف الحياة لوحدي، أسأمها، و هي الثقيلة علي، و كان المشير علي بعقل و حكمة إذا حزبني أمر ووجدت الأبواب مغلقة.

و قد رثاه الشعراء و أطنب الدعاة في ذكر مناقبة، و كان يريد أن يرثيني ، فها أنا ذا أرثيه، و سبحان الحي الباقي، و قد قال لي يوم سفره: بيننا و بينهم الجنائز، يسليني و يسلي نفسه إزاء لغط وقع فيه بعض أهل الأوهام، و صدق الله ظنه، إذ لم تشهد كردستان جنازة مثل جنازته، و زاد عدد الذين شيعوه على عشرين ألفا، في موكب وقور و تظاهرة إيمانية مميزة، وارتفع النحيب، يبكونه و ما صاحبوه غير يومين، و كثر الذين وصوا أن يدفنوا إذا ماتوا قرب قبره، تحصيلا لشرف الجوار، رحم الله الأحياء و الأموات.

إن قبره في مقبرة الشيخ أحمد الهندي على الطريق الخارج من السليمانية إلى كركوك لهو الوتد العربي الدعوي ظهراني الأكراد، وثَم دليلنا على عمق الأخوة الإيمانية بين الجموع الإسلامية إذا أراد الجمع السعي لعمرانها.

لقد سلك عادل في جادة الدعوة، فـأحسن السلوك، و اكتال من الوفاء ما شاء أن يكتال، و حرص على العلم و التعليم، و مضى مليء اليدين، و طبعت أقدامه أعمق الآثار.

فهل من سالك بعده فيه العوض، يواصل و يتصدى للأجر؟
لقد مر الهمام.. فمن ذا الذي يرشحه القدر لخلافته؟



اللهم يا أرحم الراحمين: أنزل شآبيب رحمتك على عادل و الرهط الذي صدقك من الدعاة و المعلمين و أساتذة التربية الإيمانية و الشهداء و الصالحين، و اغفر لهم، و ارفع مكانهم عندك، و أدخلهم الجنان العاليه، فلقد أتقنوا العمل، فأجزل لهم الثواب، إنك أنت العفو الودود الوهاب.

آمين، وفي كل دعاة الإسلام بركة إذا عزموا عزمات الخير.

2 comments:

  1. فكان (أستاذا ونصفا) كما يقال، فقد فاقني وذهب إلى أبعد مني

    ReplyDelete
    Replies
    1. "أخي العزيز الحبيب، و عضدي، و سندي، و صاحبي في دربي، و قريني و تلميذي"

      Delete