توفيت والدته ، طبيعي جدا فكلنا سيموت . توفيت كبقية الناس أو إن شئت قل ليس كبقية الناس فهو السبب في ذلك . كانت والدته شديدة الجمال - ليس في نظره فقط و لا في نظر والده حتى - بل في نظر كل صديقاتها . طالما حمد والده الله أنه رزقه بمرأة مثلها جميلة المحيّا جميلة الروح بشوشة الوجه . كانت مريضة بمرض مزمن ، تحتاج لدم من آن لآخر ، كان دائما ما يتبرع بل إن شئت قل كان هو المتبرع الوحيد ، يتبرع بمعدل من شهر و نصف إلى شهرين ، يعلم جيدا أنه يخالف تعليمات الأطباء بكذبه الدائم عليهم عندما يسألونه كم مضى عليك من الوقت منذ آخر مرة تبرعت فيها ؟ فيقول لهم 4 أشهر على أقل تقدير . كان حبه لها أقوى من كرهه للضعف الذي يجده في جسده النحيل بسبب نقص الدم . كان سعيدا بأن بعضا من دمائه يسري في جسدها مما يجعل بينهما نوعا من الاتصال بجانب الاتصال الطبيعي ليرد لها جزء من جميل الحمل و الفصال و معاناة التربية مع أنه في النهاية أصبح فاشلا و لكه ما زال محترما ذو خلق .
توفيت بسببه فدائما ما كان يتصل به والده مستعجلا إياه " تعالى بسرعه أمك محتاجه دم قبل ساعة " فيذهب مسرعا في نصف ساعة تقريبا و عندما يصل يظل منتظرا الأطباء و الإجراءات لمدة تفيض عن الساعتين تقريبا و حينها يغضب . تكرر المشهد مرات و مرات . اتصال .. استعجال .. إسراع في الذهاب .. انتظار لساعتين .. غضب . توفيت و الدته في المرة الرابعة عندما أصر أن يذهب رويدا رويدا فقد اعتاد الموقف و يعلم جيدا ما سيحدث إن ذهب باكرا و لكن والده كان جادا عندما اتصل به بعد ساعة من الاتصال الأول " أنت فين ، أنا مش قلت لك قبل ساعة ؟ " " أنا ف نص السكة ، قربت أوصل متقلقش " " نص السكة ! أمك بتموت " أغلق السماعة و بدأ في الركض حتى ركب أحد سيارات الأجرة . وصل إلى المستشفى ، دخل من البوابة راكضا ، لم يسمع حينها صيحات الحارس مناديا عليه و السباب يقطر من فمه . جرى في الممر الذي حفظه عن ظهر قلب .. الدور الثالث الغرفة الرابعة على اليمين . واجد والده خارج الغرفة يبكي . وصلت الرسالة .
لم يستطع أن يدخل لينظر إليها نظرة وداع فلامبالاته كانت السبب . نظر إليه والده فاستدار و خرج من المشفى .
مشى في شوارع القاهرة أطول مدة مشاها في حياته ، كان يحب المشي لكنه لم يتخيل أن بإمكانه المشي كل تلك المسافة . لم يفكر في شيء بعينه ، أحيانا يبكي ، أحيانا يشرد حتى عاد لبيته فجرا . يذكر أنه فاشل كما يعيره أصدقائه دائما ، يذكر أنه حصل بجدارة على صفة اللامبالاة و البرود و عدم التركيز . جلس على مكتبه و فتح الدرج ، أخرج مئات الخطط التي كان قد خططها لنفسه و فشل في جميعها بجدارة ابتداء بجدول المذاكرة مرورا بخطته في رمضان الماضي و انتهاء بخطته السنوية . كانت جميعها تنتهي بعلامة إكس و بجوارها بالقلم الأحمر ( فاشل ) قال لنفسه " هل سأظل فاشلا هكذا ؟ لازم ييجي يوم و أتغير . أنا مش أول و لا آخر واحد عايز يتغير . أكيد هييجي يوم و أتغير بس آخد خطوة بس و ربنا هيكرم " ظل جالسا على مكتبه و بدون حراك لمدة ساعة خرج بعدها بعزيمة و نية صافية صادقة على تغيير نفسه ( ذكرته كلمة التغيير بحملة البرادعي الذي يؤيده بشده و لكنه لم يوقع على البيان لأنه جبان ) بدأ في كتابة خطة جديدة بروح جديدة ، شعر من داخله أن تلك الخطة تختلف عن أخواتها تماما . شعور داخلي عميق لا يعرف سببه بأنه سوف ينجح و بينما هو منهمك في كتابة الخطة طرق والده الباب " ادخل " " أنا هولع على الرز و مضطر أنزل دلوقتي ، الساعة دلوقتي تلاتة لما تيجي الساعة تلاته و ربه اطفي البوتاجاز " " ماشي " فكر سريعا ، هل يضبط منبه الموبايل على الساعه الثالثة و الربع ؟ أم ييجاهد نفسه و سيتذكر و يعتبر تلك أول خطوة في خطته الجديدة ؟ أصر على أنه سيتذكر و سيجاهد نفسه ثم أكمل كتابة الخطة بحماسة شديدة . و فجأة داعبت أنفه رائحة الشّياط فنظر في جهازه المحمول فإذا بالساعة الثالثة و الثلث ، انتفض و جرى على المطبخ و فتح حلة الرز فإذا به أسود من قرن الخروب . حينها أيقن أنه سيظل فاشلا طوال حياته .
تمّت