قبل أسابيع تركنا مجيي الدين اللباد الفنان و الكاتب الذي نجح على مدى تاريخه القني الطويل أن يجسد ( الهوية ) تراثاً شعبيا عربيا ، " صانع الكتب " كما أطلق عليه حلمي التوني ، و صاحب سلسلة " نظر " غير المسبوقة في الفن التشكيلي العربي . و نحن هذا نذكره بأن ننشر له مقالاً كان قد اختص به " وجهات نظر "
تنويه : تم نشر هذا المقال في كتاب ( نظر 4 ) و لكن مع وجود اختلافات سواء بالزيادة أو النقصان .
تنويه : تم نشر هذا المقال في كتاب ( نظر 4 ) و لكن مع وجود اختلافات سواء بالزيادة أو النقصان .
لم يكن ما أشيع عن تحريم الإسلام لتصوير الإنسان و الكائنات الحية ، السبب في تبوؤ الخط العربي ماكنته الرفيعة في حياتنا ، و بالتالي انفراد الخط و الزخرفة بميدان الفن البصري كله ، بل أخذ الخط مكانته لأنه كان جزءاً من حضارة و نهضة ثقافية و روحية و فلسفية و فنية رفيعة شملت بلاد الإسلام . كانت تلك النهضة تعبيراً عن الخطوات الواسعة الجريئة التي خطتها البشرية خارج الظلمات و الجهل و العنف و المظالم التي سقطت فيها بلاد العرب و ما حولها لقرون طوال قبل الإسلام .
اكتسب الخط العربي مكانته الرفيعة أيضا لأنه الحامل لكلمات القرآن ، الكتاب الذي قدسه المسلمون على طول ألفية و نصف في مختلف أرجاء الكوكب . و لكن تلك المكانة الرفيعة التي أعلت من شأن الخط العربيو الزخرفة المصاحبة ، و أحاطته بمحيطمن العناية و الوقت و المال و المنزلة الثقافية و الاجتماعية بقصد حمايته و الحفاظ عليه، كانت سبباً في تجميد هذا الفن و في إيقاف تطوره .
في القرون الخمسة الأخيرة ، فهم البعض أن ( حفظ ) القرآن المعني في آية " إنان نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " على أنه - يعني أيضاً - تثبيت طق كتابة نصوصه. و قد ساهم الأتراك العثمانيون في هذا التجميد ، عندما روجوا - في القرن الـ 17 م - لأسلوب كتابة القرآن بالخط النسخي الحديث الذي اشتهر به الخطاط التركي البارع الحافظ عثمان أفندي ( اسطنبول ، 1624 - 1698 م ) الذي كان من أشهر خطاطي المصاحف ( العثمانية ) بالخط النسخي ، التي كتب منها 25 مصحفاً ، طبعت الدولة العثمانية عددا منها انتشر في البلاد الإسلامية .
قبل العثمانيين ، ازدهرت جنات من التنوع الخلاق المبهج في أساليب الخط العربي التي كتبت مصاحف القرآن الكريم ، و طبعت الثقافات المحلية في أركان العالم الإسلامي المختلفة تلك الأساليب بأرواحها المتباينة و المنوعة ، و أغنتها . و كان ذلك بدءاً من الخط الكوفي القديم ( المسمى بكوفي الماصاحف ) ، مروراً بالثلث و النسخي و النستعليق ( الفارسي ) وصولاً إلى الخط العربي المغربي / الأندلسي الذي تحرر من كل القواعد الحرفية ، و أصبح فنا تعبيريا شخصيا و حراً .
إلا أن تقديس الخط العربي لارتباطه بآيات القرآن الكريم الذي يجتهد المسلمون كثيراً لحمياته من أي تحريف أو تبديل ، بلغ درجة جمدت الخط العربي ، و جمدت إبداع الخطاط و التفكيره ، و منعته من الاجتهاد و المراجعة و التجاوز و التحرر و الإبداع و الابتكار .
و شهد فن الخط العربي بعض تقاليد صاحبت فترات ( ازدهاره ) في الدولة العثمانية ، و كان من تلك التقاليد احتفاظ الخطاطين الأساتذة ببرية أقلامهم في علب ذهبية أو فضية جماية لها من دوس الأقدام أو النجاسة ، بعد أن كتبت بها آيات القرآن و لفظ الجلالة . و لنتخيّل ما أدت إيه مظاهر التقديس تلك من تجميد و تحنيط لفن الخط العربي
أدى ذلك التقديس و التجميد و التحنيط إلى تثبيت تصور عند البشر يعارض تحرير الكتابة العربية من إسار التقليد و التكرار ، إذ ساد شعور خفي كما لو أن الخط العربي نزل من السماء ، و كما لو كانت أصول كتاباته قد هبطت إلينا عن طريق ( الوحي ) . و بسبب تلك المواقف نفسها ، عارض سلاطين آل عثمان دخول آلة الطباعة دولتهم ، حتى لا يطبع القرآن بآلة لا روح لها و لا عقل ، و لا عقيدة !
ما فعله خضير هو مجرد طرح للفكرة و المبدأ : هل نعتبر أساليب الخط العربي أزلية لا يمكن التعديل فيها للحصول على الأصلح و الأنفع و الأكثر ملاءمة أو لا ؟ و الحكم على ما فعله بالإعجاب و التشجيع هو إعجاب بالفكرة و تشجيع لمبدأ المراجعة و الاجتهاد في الخط .
كم هي مبهجة تلك التجربة البسيطة الشجاعة ، التي تتحدى الثبات و الجمود و التحنيط الذي يستقر في روعنا و كأنه تقديس . إنها شجاعة ( لم لا ؟ ) التي يجب أن نستفز بها الجمود . إن الخط العربي هو ابن الإنسانو من إبداع البشر و ليس منزّلاً و لا وحياً ، و الإنسان هو صاحب الحق في مراجعة إبداعه و تطويره و تبديله حسب الحاجة و حسب تبدل الأحوال ، و حسب الوظائف الجديدة للخط و الكتابة .
و مقل هذه التعديلات و التغييرات كانت قد حدثت في الخط العربي بالفعل منذ قرون طويلة و على طول هذه القرون ، حين تطور من الكوفي البدائي إلى السخ و الثلث ، و بعده النستعليق و الرقعة و الديواني ، التي تم فيها تغيير الكثير من ثوابت الأساليب السابقة ، بل و تغير منطق كتابة الخط نفسه ، و لكننا لكتفينا بما استقرت عليه الكتابة سابقاً ، و لم نبدع جديداً بعدها .
التعصب ( الذي شاركنا فيه جميعاً ) و الصراخ بشعار " حماية الخط العربي من العبث و التحوير ) لم يعد موقفاً ناضجاً مسؤولاً ، و جيب علينا جميعاً مراجعته . نعم علينا أن نقيّم و ننقد نتائج محاولات تطوير الخط العربي و نمسح بالرديء منها الأرض . لكن ليس لنا أن نجرّم المحاولة أو نحظرها على أحد . ليس هناك شيء يستمر بدون تبديل و تطوير لمواكبة المتغيرات المتلاحقة في حياتنا
الخط و حرف الطباعة
هناك ضرورة للتفريق القاطع بين كلمتي ( الخطوط - Calligraphy ) و ( تصميم حروف الطباعة - Font ) . و الخطأ في الخط و الالتباس بين التعبيرين خطير . إذ أنه ليس مجرد خطأ في التعبير اللغوي ، بل هو – إذا ما وقع – ستدرج إلى أخطاء عملية ذات تأثير جسيم على المفاهيم و التخطيط و التوجهات في مسارات البحث و الابتكار و التصميم و الاستثمار في مجال حروف الطباعة بأنواعها .
الخط ( Calligraphy ) هو فن شخصي و حرفة فردية يعتمد أداؤها على اليد البشرية ، و على التكوين الشخصي ، و على الذوق ، و على حال الخطاط لحظة خطه لقطعة من العمل بعينها ، لن يتكرر إنتاجها مرة أخرى . و يعتمد الأداء و الأسلوب في الخط على : البحث عن الحل الأمثل لحالة معينة محددة – الارتجال ( بما يشته تقاسيم الموسيقى الارتجالية على مقام معلوم ) – الاستدراك - الفذلكة – الطابع الشخصي التقديري . و يحكم على نتيجة عمل الخطاط على أساس كونها وحدة عمل واحدة متشابكة ، و على أساس تكاملها مع نفسها .
أما الحرف المصمم للطباعة ( Font ) فهو نظام ( System ) وظيفي نمطي ، معدّ للاستعمال العام بواسطة مستخدمين لا تشترط فيهم كفاءات خاصة ، و لا تتوفر لهم – عند استخدامه – فرص للارتجال ، أو الاستدراك ، أو الفذلكة ، أو التجويد ، أو إضفاء الطابع الشخصي و التقديري . و يأخذ قيمت من درجة التواصل ( Communication ) التي تنتج عن الاصطلاح العام على استعماله الواسع .
و قد تغيرت فنون كثيرة بانتقالها إلى وسيط ( Medium )جديد ، أو بتغيرات في تقنيات الوسيط ، و غالبا ما انفرزت منها فنون جديدة مستقلة بذاتها : ذات سيادة ، و غير ملحقة بالأصل . و من هذه الفنون : فن حرف الطباعة ، الذي انفصل عن فن الخط ، مثلما انفصل فن السينما عن فن المسرح ، ثم فن التليفزيون عن فن السينما ، و أصبح لكل فن منهما قوانينه و شروطه الخاصة .
و قد انفك الإسار عن فن حرف الطباعة اللاتيني عندما حرر نفسه من محاولة محاكاة فن الخط اليدوي ، و حين كف عن المراوغة و التحايل على حدود ( Limitations ) الوسيط الجديد التي ( تعجزه ) عن الوصول إلى ( كمال ) الخط اليدوي . تحرر حرف الطباعة حين جعل من تلك الحدود خصوصيات و صفات و قسمات أساسية تميزه ، بل لقد ركز على إبرازها ، و جعل منها فيمه الجمالية الخاصة ، كف الحرف عن اعتبار نفسه من مرتبة أدنى من الخط اليدوي ، فانطلق إلى الأمام و إلى الأعلى .
المسافة شاسعة بين الحرف اللاتيني القوطي ( Gothic ) الذي بدأ به جوتنبرج عام 1450 و بين ما نعرفه الآن من حروف لاتينية . و علميات الابتكار و التطوير فيها لا تزال مستمرة . و يستفيد تصميم الحرف اللاتيني و يتأثر بكل أشكال النمو و التطور في : الصناعة و العلوم ( تطبيقية و إنسانية ) و النظريات الفلسفية و المدارس الفنية ، و بالمتغيرات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية . و يتطور تصميم حرف الطباعة اللاتيني أيذا بالبحث الؤوب في تراث الخط اليدوي و تراث الفنون البصرية ، سواء في الحضارة الغربية أو في الحضارات الأخرى غير اللاتينية . بينما نتجمد نحن و نجمد معنا حروفنا الطباعية ، و لا نزال متوقفين بها عند مرحلة تعادل مرحلة حرف الطباعة القوطي الذي بدأ به جوتنبرج طريقه في القرن 15 مـ ، و لم نترحك بحروفنا إلى الأمام إلا قليلاً !
عرفنا حروف الطباعة العربية ، على نطاق واسع مع حملة نابليون ( 1798 مـ ) و كانت الحروف التي جلبها معه مسبوكة في جنوة و البندقية ( حيث كانت إيطاليا سباقة في صناعتها – منذ القرن الـ 16 – لطباعة ترجمات عربية للكتاب المقدس ) .
لم يختلف الحال كثيراً طوال القرنين اللذين يفصلاننا عن حملة نابليون و مطبعته ، فحتى سنوات قريبة كانت التجارب المحلية قليلة ، و الإسهام المحلي في صياغة الحروف كان قيلاً . أما الاختيار و قرار الإنتاج فكانا – غالباً – اختيار و قرار شركات غبر عربية ، لا تملك المعرفة الكاملة بنا و باحتياجاتنا ، و لا تملك الدراية الثقافية باريخنا و تراثنا في الميدان ، ة لا تعرف أولويات ضروراتنا ، و لا تعني بإنجاز ما يبني لنا تراكماً صحيحاً يؤسس لتنمية ثقافية في بلادنا .
و في النصف الأول من القرن العشرينجرت محاولات عربية جادة قليلة لتطوير حرف الطباعة العربي ، و توصلت دار المعارف المصرية في 1948 مع شركة ( مونوتايب ) البريطانية ، إلى حرف طباعة كامل رفيع المستوى للكتب كان معتمداً على خط النسخ . كتب هذا الخط خطاطون مصريون و أشرف عليه خبير الطباعة يوسف قاروط كما توصلت الشركة الأأخرى ( لينوتايب ) لحرف طباعة مختصر مقبول للصحف و الدوريات ، كان الحرفان المصنعان لغرض صف المتون ، مثلما كانت كل الأبحاث الجادة في مجال حرف الطباعة تدور حول حروف المتن . و ظل الاعتماد – في عناوين الصحف و الدوريات و أغلفة الكتب و الإعلانات المطبوعة و غيرها – على الخطاط اليدوي ، باستثناء تجارب قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع الكفين : في الستينات أنجزت جريدة الأهرام حرفاً حصريا خاصا لعناوينها ( الخطاط عدلي بولس + المصمم المعماري ثم الجرافيكي توفيق بحري ) و في منتصف السبعينات لجأت بعض الصحف الللبنانية ( دار الصيّاد ) إلى طباعة حروف عناوين منفصلة على ورق مصقول ، و كانت العناوين تجمّع منها يدويا بقصها و لصقها متجاورة على ورق ، ثم تصوريها .
و بعد الفطرة في أسعار النفط في منتصف السبعينات ، اهتمت شركة ( ليترايست ) و بعض الشركات الإيطالية الأصغر بالسوق العربية و سوق إيران ، و أنتحت لهما – على عجل – قائمة من حروف العناوين العربية المطبوعة على أسطح شفافة لاصقة ، و قابلة لأن تنقل على الورق . تم الإنتاج في هرولة ، و كانت النتائج – في أغلبها – مشوهة و متدنية المستوى ( يصل بعضها إلى درجة الفكاهة المحزنة ) . و لم يكن منجزو هذه الخطوط خطاطين أكفاء ، و لا مصممين جرافيكيين مبدعين ، بل كانوا من قناصة فرص السوق . لكن هذا الإنتاج سرى في بلادنا المندهشة سريان النار في الهشيم ، و لا يزال الكثير من أحرفه يتسيد السوق ، و يتصدر الصفحات الأولى لصحف عربية كبرى يشترك عدد كبير منها في استخدام نفس الحرف ( المريض ) الذي يجعل تشابهها العام في الشكل و المذاق متقارباً إلى حد كبير .
و دخلت ( ميكانورما / نظيرة الليتراست في فرنسا ) السباق على السوق العربية ، فأنتجت – في هرولة هي الأخرى و عبر فريق صغير من المصممين حديثي العمر و الخبرة – قائمة قليلة العدد من الحروف العربية لم يختلف مستواها عن سابقتها البريطانية ، و لم تلق رواجاً في السوق العربية .
و عندما ازدادت إمكانات الصف الضوئي Photocomposing و اتسعت سوقه في بلادنا ، و كان ضرورياً أن تضيف الشركات إلى حروف آلاتها حروفاً للعناوين ، لم يكن أمام شركة ( لينوتايب ) سوى حروف ( ليتراسيت ) المشوهة إياها ، لتجعلها حروف للعناوين الرئيسية في آلاتها ، و أضافت إليها حروفاً قليلة جديدة ( مشوهة بدورها ) أبدعها نفس الفريق الذي ارتكب الجريمة الأولى . و قد تفكك ذلك الفريق فيما بعد و انقسم إلى شركات متعددة تختص في إنتاج حروف الطباعة و ملحقاتها ، و لا زالت حروفهم هي الرائجة في السرق العربية ، و في قوائم الشركات العالمية الكبرى ، رغم سذاجتهاو ضعفها الباديين .
و مع تسارع ظهور التقنيات و الأدوات المساعدة التي تيسر ( حتى للأفراد ) إنتاج حروف الطباعة للحاسب زاد الهرج و اشتد زحام الميدان و اختلط الحابل بالنابل و ازدحم المولد و زادت هيصته .
و ظل همنا الأكبر - في أغلبه – محاولة لإعادة إنتاح أساليب الخط اليدوي المعقدة في شكل حروف للطباعة : بالأحرف المعدنية البارزة ، أو بالصف الضوئي ، أو على الكمبيوتر . و كم بذلنا من جهود كبيرة من أجل هذه المحاكاة المستحيلة ، و التي يعدّ البعض الاقتراب من النجاح فيها انتصاراً .
لن يمكن بلوغ النجاح ، و لوى رقاب أساليب الخط العربي ، و إدخالها في نسق الكمبيوتر . فالتراكب بين الحروف العربية ، و وجود أكثر من شكل للحرف العربي حسب موقعه و علاقته بالحروف المختلفة السابقة عليه و اللاحفة ، لن يمكّن من ذلك باليسر الذي تتطلبه اقتصاديات الوقت و العمليات في الكمبيوتر .
و لقد كانت مهمة ثقيلة تلك التي صرف المصممون و المطورون فيها جهوداً مضنية طويلة للحصول على خطوط مثل الثلث و الديواني و الفارسي و الرقعة و المغريب عن طريق الكمبيوتر . فهي أساليب لا تتسق مع التركيب الخطي الاستطرادي Linear المعتمد في تتالي حروف الطباعة . و النتائج التي حصلنا عليها – بالكمبيوتر – لتلك الأساليب الكلاسيكية متواضعة و تحفل بالتنازلات في تقاليد الكتابة دون أن تصل إلى تصميمات حديثة متوافقة مع الوظائف الجديدة و الذائقة الجديدة و المعارف الحديثة .
الخط ( Calligraphy ) هو فن شخصي و حرفة فردية يعتمد أداؤها على اليد البشرية ، و على التكوين الشخصي ، و على الذوق ، و على حال الخطاط لحظة خطه لقطعة من العمل بعينها ، لن يتكرر إنتاجها مرة أخرى . و يعتمد الأداء و الأسلوب في الخط على : البحث عن الحل الأمثل لحالة معينة محددة – الارتجال ( بما يشته تقاسيم الموسيقى الارتجالية على مقام معلوم ) – الاستدراك - الفذلكة – الطابع الشخصي التقديري . و يحكم على نتيجة عمل الخطاط على أساس كونها وحدة عمل واحدة متشابكة ، و على أساس تكاملها مع نفسها .
أما الحرف المصمم للطباعة ( Font ) فهو نظام ( System ) وظيفي نمطي ، معدّ للاستعمال العام بواسطة مستخدمين لا تشترط فيهم كفاءات خاصة ، و لا تتوفر لهم – عند استخدامه – فرص للارتجال ، أو الاستدراك ، أو الفذلكة ، أو التجويد ، أو إضفاء الطابع الشخصي و التقديري . و يأخذ قيمت من درجة التواصل ( Communication ) التي تنتج عن الاصطلاح العام على استعماله الواسع .
و قد تغيرت فنون كثيرة بانتقالها إلى وسيط ( Medium )جديد ، أو بتغيرات في تقنيات الوسيط ، و غالبا ما انفرزت منها فنون جديدة مستقلة بذاتها : ذات سيادة ، و غير ملحقة بالأصل . و من هذه الفنون : فن حرف الطباعة ، الذي انفصل عن فن الخط ، مثلما انفصل فن السينما عن فن المسرح ، ثم فن التليفزيون عن فن السينما ، و أصبح لكل فن منهما قوانينه و شروطه الخاصة .
و قد انفك الإسار عن فن حرف الطباعة اللاتيني عندما حرر نفسه من محاولة محاكاة فن الخط اليدوي ، و حين كف عن المراوغة و التحايل على حدود ( Limitations ) الوسيط الجديد التي ( تعجزه ) عن الوصول إلى ( كمال ) الخط اليدوي . تحرر حرف الطباعة حين جعل من تلك الحدود خصوصيات و صفات و قسمات أساسية تميزه ، بل لقد ركز على إبرازها ، و جعل منها فيمه الجمالية الخاصة ، كف الحرف عن اعتبار نفسه من مرتبة أدنى من الخط اليدوي ، فانطلق إلى الأمام و إلى الأعلى .
المسافة شاسعة بين الحرف اللاتيني القوطي ( Gothic ) الذي بدأ به جوتنبرج عام 1450 و بين ما نعرفه الآن من حروف لاتينية . و علميات الابتكار و التطوير فيها لا تزال مستمرة . و يستفيد تصميم الحرف اللاتيني و يتأثر بكل أشكال النمو و التطور في : الصناعة و العلوم ( تطبيقية و إنسانية ) و النظريات الفلسفية و المدارس الفنية ، و بالمتغيرات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية . و يتطور تصميم حرف الطباعة اللاتيني أيذا بالبحث الؤوب في تراث الخط اليدوي و تراث الفنون البصرية ، سواء في الحضارة الغربية أو في الحضارات الأخرى غير اللاتينية . بينما نتجمد نحن و نجمد معنا حروفنا الطباعية ، و لا نزال متوقفين بها عند مرحلة تعادل مرحلة حرف الطباعة القوطي الذي بدأ به جوتنبرج طريقه في القرن 15 مـ ، و لم نترحك بحروفنا إلى الأمام إلا قليلاً !
عرفنا حروف الطباعة العربية ، على نطاق واسع مع حملة نابليون ( 1798 مـ ) و كانت الحروف التي جلبها معه مسبوكة في جنوة و البندقية ( حيث كانت إيطاليا سباقة في صناعتها – منذ القرن الـ 16 – لطباعة ترجمات عربية للكتاب المقدس ) .
لم يختلف الحال كثيراً طوال القرنين اللذين يفصلاننا عن حملة نابليون و مطبعته ، فحتى سنوات قريبة كانت التجارب المحلية قليلة ، و الإسهام المحلي في صياغة الحروف كان قيلاً . أما الاختيار و قرار الإنتاج فكانا – غالباً – اختيار و قرار شركات غبر عربية ، لا تملك المعرفة الكاملة بنا و باحتياجاتنا ، و لا تملك الدراية الثقافية باريخنا و تراثنا في الميدان ، ة لا تعرف أولويات ضروراتنا ، و لا تعني بإنجاز ما يبني لنا تراكماً صحيحاً يؤسس لتنمية ثقافية في بلادنا .
و في النصف الأول من القرن العشرينجرت محاولات عربية جادة قليلة لتطوير حرف الطباعة العربي ، و توصلت دار المعارف المصرية في 1948 مع شركة ( مونوتايب ) البريطانية ، إلى حرف طباعة كامل رفيع المستوى للكتب كان معتمداً على خط النسخ . كتب هذا الخط خطاطون مصريون و أشرف عليه خبير الطباعة يوسف قاروط كما توصلت الشركة الأأخرى ( لينوتايب ) لحرف طباعة مختصر مقبول للصحف و الدوريات ، كان الحرفان المصنعان لغرض صف المتون ، مثلما كانت كل الأبحاث الجادة في مجال حرف الطباعة تدور حول حروف المتن . و ظل الاعتماد – في عناوين الصحف و الدوريات و أغلفة الكتب و الإعلانات المطبوعة و غيرها – على الخطاط اليدوي ، باستثناء تجارب قليلة لا يتجاوز عددها عدد أصابع الكفين : في الستينات أنجزت جريدة الأهرام حرفاً حصريا خاصا لعناوينها ( الخطاط عدلي بولس + المصمم المعماري ثم الجرافيكي توفيق بحري ) و في منتصف السبعينات لجأت بعض الصحف الللبنانية ( دار الصيّاد ) إلى طباعة حروف عناوين منفصلة على ورق مصقول ، و كانت العناوين تجمّع منها يدويا بقصها و لصقها متجاورة على ورق ، ثم تصوريها .
و بعد الفطرة في أسعار النفط في منتصف السبعينات ، اهتمت شركة ( ليترايست ) و بعض الشركات الإيطالية الأصغر بالسوق العربية و سوق إيران ، و أنتحت لهما – على عجل – قائمة من حروف العناوين العربية المطبوعة على أسطح شفافة لاصقة ، و قابلة لأن تنقل على الورق . تم الإنتاج في هرولة ، و كانت النتائج – في أغلبها – مشوهة و متدنية المستوى ( يصل بعضها إلى درجة الفكاهة المحزنة ) . و لم يكن منجزو هذه الخطوط خطاطين أكفاء ، و لا مصممين جرافيكيين مبدعين ، بل كانوا من قناصة فرص السوق . لكن هذا الإنتاج سرى في بلادنا المندهشة سريان النار في الهشيم ، و لا يزال الكثير من أحرفه يتسيد السوق ، و يتصدر الصفحات الأولى لصحف عربية كبرى يشترك عدد كبير منها في استخدام نفس الحرف ( المريض ) الذي يجعل تشابهها العام في الشكل و المذاق متقارباً إلى حد كبير .
و دخلت ( ميكانورما / نظيرة الليتراست في فرنسا ) السباق على السوق العربية ، فأنتجت – في هرولة هي الأخرى و عبر فريق صغير من المصممين حديثي العمر و الخبرة – قائمة قليلة العدد من الحروف العربية لم يختلف مستواها عن سابقتها البريطانية ، و لم تلق رواجاً في السوق العربية .
و عندما ازدادت إمكانات الصف الضوئي Photocomposing و اتسعت سوقه في بلادنا ، و كان ضرورياً أن تضيف الشركات إلى حروف آلاتها حروفاً للعناوين ، لم يكن أمام شركة ( لينوتايب ) سوى حروف ( ليتراسيت ) المشوهة إياها ، لتجعلها حروف للعناوين الرئيسية في آلاتها ، و أضافت إليها حروفاً قليلة جديدة ( مشوهة بدورها ) أبدعها نفس الفريق الذي ارتكب الجريمة الأولى . و قد تفكك ذلك الفريق فيما بعد و انقسم إلى شركات متعددة تختص في إنتاج حروف الطباعة و ملحقاتها ، و لا زالت حروفهم هي الرائجة في السرق العربية ، و في قوائم الشركات العالمية الكبرى ، رغم سذاجتهاو ضعفها الباديين .
و مع تسارع ظهور التقنيات و الأدوات المساعدة التي تيسر ( حتى للأفراد ) إنتاج حروف الطباعة للحاسب زاد الهرج و اشتد زحام الميدان و اختلط الحابل بالنابل و ازدحم المولد و زادت هيصته .
و ظل همنا الأكبر - في أغلبه – محاولة لإعادة إنتاح أساليب الخط اليدوي المعقدة في شكل حروف للطباعة : بالأحرف المعدنية البارزة ، أو بالصف الضوئي ، أو على الكمبيوتر . و كم بذلنا من جهود كبيرة من أجل هذه المحاكاة المستحيلة ، و التي يعدّ البعض الاقتراب من النجاح فيها انتصاراً .
لن يمكن بلوغ النجاح ، و لوى رقاب أساليب الخط العربي ، و إدخالها في نسق الكمبيوتر . فالتراكب بين الحروف العربية ، و وجود أكثر من شكل للحرف العربي حسب موقعه و علاقته بالحروف المختلفة السابقة عليه و اللاحفة ، لن يمكّن من ذلك باليسر الذي تتطلبه اقتصاديات الوقت و العمليات في الكمبيوتر .
و لقد كانت مهمة ثقيلة تلك التي صرف المصممون و المطورون فيها جهوداً مضنية طويلة للحصول على خطوط مثل الثلث و الديواني و الفارسي و الرقعة و المغريب عن طريق الكمبيوتر . فهي أساليب لا تتسق مع التركيب الخطي الاستطرادي Linear المعتمد في تتالي حروف الطباعة . و النتائج التي حصلنا عليها – بالكمبيوتر – لتلك الأساليب الكلاسيكية متواضعة و تحفل بالتنازلات في تقاليد الكتابة دون أن تصل إلى تصميمات حديثة متوافقة مع الوظائف الجديدة و الذائقة الجديدة و المعارف الحديثة .
أفكار و تجارب و تطبيقات
و قد تعرض القاريء ( بل و الأمي ) العربي – و على مدى نصف قرن على الأقل – لخبرات كثيفة بالحروف اللاتينية الحديثة ، و ازدادت معرفته بمنطقها و دلالاتها القرائية ، و بطرق فك رموزها و بإيماءاتها . و قد تضاعفت تلك الخبرات عدة مرات في العشرين عاما الأخيرة مع توسع سوق الاستهلاك السلعي بتغليفات بضائعة الأجنبية ، و توسع مجال الإعلانات عن السلع الأجنبية المستوردة او المصنعة حالياً ، و مع يسر استقبال الإرسال التلفزيوني الأجنبي ، و ازدياد تدفق المعلومات المطبوعة الواردة إلينا من الخارج . و قد ترتب على هذا تسقرار قدر من الألفة مع اللغة الجرافيكية للأحرف اللاتينية ، و الوعي بقيمها الجمالية و بنظامها البصري و بمعمارها ، في بديهة المواطن العربي .
كانت تصميمات الحروف اللاتينية قد مرت بظروف فرضت تطورها و نموها الدائم ، و منها عمليات الملاءمة لضرورات و وظائف و خصائص إنسانية و عملية و تقنية و اقتصادية مستجدة و متغيرة ، و لم يسبق طرحها على حروف الطياعة من قبل . بينما انقطع تطور حروفنا العربية منذ زمن طويل ، و جمدت في مشيختها الهرمة .
كذلك استفادت من ( إنجازات ) الحروف اللاتينية حروف لغات عديدة غير لاتينية ، و أدخلت إلى تصميماتها قيما بصرية و ابتكارات و اكتشافات و حلولاً توصل إليها الحروف اللاتيني عبر طريق تطوره الطويل ( على سبيل المثال : حروف اللغات السلافية الأصل Cyrillic ( الروسية و البلغارية و الصربية ) – اليونانية – اليابانية و الصينية و الكورية – العبرية – بعض اللغات الهندية ) .
نحن أبضا علينا النظر بحساسية أقل إلى ضرورةاستخدامنا لبعض هذه الإنجازات ، و ضرورة استغلالنا لتلك الخبرات الجديدة للفرد العربي بقيم الحروف اللاتينية و جمالياتها و مقروئيتها ، و ذلك عند تصميم حروف عربية جديدة . و لا صلة لهذه الدعوة بالتقليد المتهافت الأعمى – و من موقع أدنى – لأشكال بعض الحروف اللاتينية و لزماتها الشكلية ، و لا بتلك الأشكال المتهافتة من الحروف ( العربية ) الهجينة التي ظهرت أحيانا في بلادنا خلال العقدين الأخيرين . و يجب أن يتلازم هذا التطلع إلى ما وراء الأفق مع بحث هاديء و عميق و تأمل للداخل : للخط العربي الذي يمثل جوهره جزاءاً حميما من تكويننا الثقافي و الوجداني و الروحي .
...
لنرفع أيدينا عن فن الخط اليدوي حين نتحدث عن حرف الطباعة ، إذ سيعيش الأول فنا جميلاً غالياً راقياً له وظائف الفن الطليعية ، و بحضر جليلاً في الأعمال التطبيقية الهامة الاستثنائية الخصوصية ، كما هو الحال في باقي العالم المتحضر ، بما فيه الهند و كوريا و الصين و اليابان و أمريكا اللاتينية . و علينا رعاية هذا الفن مثل كل فنوننا البصرية الأخرى ، و التعامل معه على هذا الأساس .
و ستظل لوحات الخطاط الفرد إيداعاً خالدا يحتل مواقعهة المتنوعة في حياتنا : في المتحف ، و في المعرض ، و في منازلنا ، و أماكن عملنا ، و على أغلفة كتبنا ، و وثائقنا ، و لافتاتنا ، و علاماتنا التجارية ، و على كل ما نحرص على تمييزه من مصنفاتنا .
أما حرف الطباعة فهو شان آخر جديد يحتاج اتكاتف عدد من التخصصات ، و قد أصبح صنعة و علماً ، له أصوله و مناهجه و معاهده لتكوين المبدعين فيه ، و أصبح الخطاط أحد التخصصات العامة في حقل حرف الطباعة ، و ليس المبدع الوحيد .
...
لم يعد من الجائز أن نشرع في تصميم حروف الطباعة بأساليب محددة من الأساليب التي قسم إليها الخط العربي من قبل : نسخ و رقعة و ثلث و ديواني و كوفي و فارسي و خلافها . إذ أن الضرورة في التحديث قد تحتم خلط او تهجين أساليب مختلفة : تهجين النسخ بالثلث و بلاكوفي القديم ، أو مزاوجة الكوفي الهندسي مع بعض حلول الحروف في الفارسي ، و هكذا .
و إذا ما هدف المصمم إلى تصميم عائلات حروف في ضخيات متباينة ، تؤدي كل منها دورها الخاص في مجال محدد من النشر و المطبوعات ( جريدة يومية ، مجلة سياسية ، شهرية أو فصلية ثقافية ، مجلة خفيفة ، مجلة افتصادية .. إلخ ) لن يكون الطريق هو طريق تصميم حروف بأساليب الخط القديمة الرائعة ، التي لم تعد تعبر عن شيء و لا تقول شيئا ، سوى المباهاة بالإجادة و الإحكام و العظمة .
و بمراجعة تصميماتنا الجرافيكية العربية في النشر و في الصحافة و الإعلان ، قد نكتشف أن من أسباب توقف تطور هذا الإنتاج في بلادنا هو تخلف تصميمات حروف الطباعة العربية . بينما نطالع التصميمات المناظرة في اللغات المكتوبة بالحروف اللاتينية ، فنرى اعتماد تلك التصميمات على التنوع الغني في أشكال حروف الطباعة ، بحيث إن الحروف في أغلب الأحيان تلعب دور البطولة في تصميم الإنتاج الطباعي في النشر و الصحافة و الإعلان .
و أصبح على الدول العربية مجتمعة أن تتعاون في تأسيس معهد لتكوين المصممين لهذه المهنة الجديدة ، يخطط عمله على أساس ظروفنا و احتياجاتنا الخاصة . و ربما كان علينا أن نستعين فيها بأساتذة من خارج بلادنا : من الغرب و من دول العالم الثالث التي سبقتنا إلى هذه التجربة ، مثل الهند و كوريا و اليابان و الصين .
إن استمرار الوضع المتخبط الملتبس القائم في بلادنا في هذا الميدان ، لم يعد تأثيره السلبي ينحصر في تشويه الذوق العام ، و في تعرية أحد تجليات تخلفنا ، بل هو تأثير سلبي فعلي قوي و تراكمي على العقل العربي ، و على الذاكرة الجمعية ، و على الحساسية ، و على الوجدان السليم ، و على قدرتنا على الإبداع و التفكير الحر .