لقد كان لكل رسول معجزة ، و كانت اامعجزة - كما تعلمون - من جنس ما أبدع فيه قومه ، من جنس تخصصهم لا لشيء إلا ليخبرهم بأنهم إذا ظنوا أنهم وصلوا إلى الكمال البشري في ذلك المجال ، فتلك المعجزة قد تخطت الحدود البشرية لأنها قادمة من لدن إلهي لا تحده قدرات البشر ، بل هو خالق قدرات البشر ، فتخبت له قلوبهم فيؤمنوا به طوعاً لا كرهاً .
فجاءت معجزة موسى الرئيسية تحوّل العصا إلى ثعبان مبين في فعل يشبه السحر ، فقوم موسى كانوا سحرة مهرة . و جاءت معجزة المسيح بإبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله ، فقوم عيسى كانوا أطباء مهرة ، وجاءت معجزة النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم ، فكانت القرآن الكريم ، كلام الله المعجز في بلاغته ، بل في كل ما فيه ، لأن العرب كانوا فحول الشعراء ، فقد بلغوا في اللغة و التعبير و البيان و الإفصاح شأواً بعيداً ، فجاء القرآن ليسمعوه فتذبهل العقول ، فتشخص أبصارهم ولا يرتد إليهم طرفهم !
فالمشركون في ذلك الحين عرفوا معنى " بلاغة القرآن " لأنهم فهموا اللغة و أتقنوا أدواتها ، أما نحن فوصلنا في انحطاط اللغة العربية إلى ما يحزن ، و الانحطاط في اطراد . و المتتبع لمسيرة الشعر - خصوصاً - من الشعر الجاهلي إلى الشعر الحديث إلى الشعر العامّي - إن جاز تسميته شعراً - يجد الفرق المهول . فبعد أن كان امرؤ القيس يقول " قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل / بسقط اللوى بين الدخول فحومل " جاء أحد الشعراء و قال " أنا مش خرونج / أنا كينج كونج / ده أنا و أنا رابط إيدي بلعب بينج بونج " ليرينا مهاراته في اللغة قبل مهارته في البينج بونج .
و لكني و أنا أقرأ كتاب " التصوير الفني في القرآن الكريم " للشهيد سيد قطب . شعرت بشيء من تلك البلاغة . من ذلك الجمال الفني في القرآن ، وعلمت لماذا القرآن كان سببا مباشراً في إسلام الكثيرين ، أما الآن فأنت تحتاج لحجة و برهان و منطق عقلي من كلام البشر لكي يستمع إليك الناس أساساً فضلا عن أن يقبلوا الكلام أو يرفضوه .
أترككم الآن مع مقتطف اقتطفته من الكتاب فكان كأطيب الثمر :
قد يستقل لفظ واحد - لا عبارة كاملة - برسم صورة شاخصة - لا بمجرد المساعدة على إكمال معالم صورة - . و هذه خطوة أخرى في تناسق التصوير ، أبعد من الخطوة الأولى ، و أقرب إلى قمة جديدة في التناسق . خطوة يزيد من قيمتها أن لفظا مفرداً هو الذي يرسم الصورة، تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن ، و تارة بظله الذي يلقيه في الخيال ، و تارة بالجرس و الظل جميعاً .تسمع الأذن كلمة " اثّاقلتم " في قوله : " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض " فيتصور الخيال ذلك الجسم المثّاقل ، يرفعه الرافعون في جهد ، فيسقط من أيديهم في ثقل ، إن في هذه الكلمة " طنّاً " على الأقل من الأثقال ! و لو أنك قلت : تثاقلتم ، لخف الجرس ، و لضاع الأثر المنشود ، و لتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ ، و استقل برسمها .و تقرأ " و إن منكم لمن ليُبَطّئن " فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها - و في جرس " لَيُبَطِّئَن" خاصة ، و إن اللسان ليكاد يتعثّر ، و هو يتخبط فيها ، حتى يصل ببطء إلى نهايتها !و تتلو حكاية قول هود " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعُمِّيت عليكم أنُلزِمُكُمُوهَا و أنتم لها كارهون " فتحس أن كلمة " أنُلزمكُمُوها " تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق ، و شد بعضها إلى بعض ، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ، و يشدون إله و هم نافرون !
انتهى كلامه رحمه الله . الكتاب مهم جداً لمحبي اللغة العربية ، فهو يتكلم عن أن التصوير الفني هو الأسلوب المفضل في القرآن في السرد و التخييل الحسي و التجسيم بعيداً عن البعد الإيماني و التفسيري للآيات ، سيكون ممتعاً لمحبي الأدب عموماً ، لتعود فتقرأ قرآنا آخر غير الذي كنا نقرأه .
No comments:
Post a Comment